مظهر التّقديس بزوال دولة الفرنسيس" للجبرتيّ: قراءة ثقافيّة |
كتاب " مظهر التّقديس.. " أوّل كتاب دوّنه المؤرّخ الكبير عبد الرّحمن الجبرتيّ في التّاريخ؛ فهو سابق على كتابه الشّهير " عجائب الآثار في التّراجم والأخبار " – أو تاريخه الكبير. وعلى الرّغم من قلّة شهرة الكتاب، الّذي لا يكاد يعرفه إلاّ المؤرّخون، والمتخصّصون منهم في التّاريخ الحديث بخاصّة، فإنّ أهميّة هذا الكتاب تنبع، أوّلاً، من أنّه للجبرتيّ، المؤرّخ المصريّ الكبير، الّذي يعدّ طليعة المؤرّخين المصريّين المحدثين بلا منازع، بعد أن انتقل بالكتابة التّاريخيّة من مجرّد نقل الأخبار وروايات الأحداث، ولو كانت متناقضة، إلى التّوثيق، والاستيثاق، والتّرجيح، بل والحكم عليها. كما تأتي أهميّته، كذلك، من أنّه المحاولة الأولى المنشورة للجبرتي في التّأريخ، بعد محاولة لم تكتمل في ترجمة رجال القرن الثّاني عشر الهجريّ – أقنعه بها اللّغويّ الكبير محمّد مرتضى الزَّبيديّ ، صاحب " تاج العروس في شرح القاموس "؛ يعني " القاموس المحيط "، الّذي كان في زيارة لمصر في مطلع القرن الثّالث عشر – وقد شرع في العمل، وبعد كثير من العمل، وجَمْعِ كثير من المادّة، من أفواه الأحياء من الأهل والأصدقاء والعارفين، ومن الصّكوك والحجج المحفوظة في الدّيوان حيث دفاتر الكتبة والمباشرين، ومن نقوش القبور وإجازات الشّيوخ، وجمع ذلك كلّه في كرّاسات حتّى يفاجئه ما لم يكن في الحسبان؛ إذ وقع الطّاعون بمصر، فكان ممن حصدهم مرتضى الزَّبيديّ؛ فطوى الرّجل أوراقه. لكنّه لم يلبث أن تلقّى رسالة من السّيّد أبي المودّة محمد خليل المراديّ مفتي دمشق تحثّه على إكمال العمل فيما بدأ، وما أن اقترب من النّهاية حتّى فوجئ، مرّة أخرى، بنعي الشّيخ المراديّ ؛ فانصرف عنه كلّيّة. فلمّا كانت الحملة الفرنسيّة بدأ في تدوين مذكّرات يوميّة عمّا ارتبط بها من أحداث " ولقد كنتُ سطرتُ ما وقع وحصل من الوقائع، من ابتداء تملُّك الفرنسيس لأرض مصر إلى أن دخلها مولانا الوزير (يعني الوزير يوسف باشا)، في أوراق غير منظومة في سلك الاجتماع والاتّفاق، وكثيراً ما كان يخطر ببالي، وإن لم يكن ذلك من شأن أمثالي، أن أجمع افتراقها، وأُكسِبها بالتّرصيف اتّساقَها؛ ليكون ذلك تاريخاً مُطلِعاً اللّبيبَ على عجائب الأخبار وغرائب الآثار " (ص30). وقد راجع مادّته على ما دوّنه صديقه العلاّمة الشّاعر حسن العطّار ، وانتهى من تأليفه وسلّمه إلى الوزير في صفر من عام 1216هـ (1802م). وقد ضمّ المادّة التّاريخيّة الموجودة في الكتاب كلّها إلى " عجائب الآثار.. "، وإن كانت آراؤه قد تغيّرت في بعض الأحداث، وبخاصّة موقفه من الفرنسيّين، الّذي نجده في "العجائب" موقفاً أكثر ميلاً إلى الإنصاف، بل الإعجاب المبطّن بكثير من إنجازاتهم العلميّة ونرتيباتهم القانونيّة. كما تأتي أهميّة الكتاب من الفترة الّتي يؤرِّخ لها، وهي فترة الحملة الفرنسيّة، الّتي دامت – بحسابه - ثلاث سنوات وواحداً وعشرين يوماً. وهي فترة كانت حافلة بالأحداث والصّراعات العسكريّة والحضاريّة الّتي كما كانت مؤذنة بتحوّل كبير في التّاريخ المصريّ، والعربيّ معه، سيؤتي أُكُله بعد حين قليل جدّاً، على أيدي المصريّين أنفسهم، الّذين عانوا ويلات الغزو ومقاومته، ثمّ على يدي محمّد علي الّذي مكّنه المصريّون من الحكم! كان الجبرتيّ شيخاً أزهريّاً، ويكون طبيعيّاً، لهذا، أن يكون المنطلق الأوّل لثقافته الثّقافة الدّينيّة، إن في رؤيته للأحداث أو في رصده لها، فضلاً عن بنائه لكتابه نفسه. غير أنّ ثقافته لم تقف عند تحصيل العلوم الدّينيّة واللّغويّة المعروفة إلى عصره من بضاعة الأزهريّين، بل أضاف إليها – على يديْ والده الشّيخ حسن الجبرتي – معرفته الوثيقة بعلوم الفلك والمواقيت والحساب والمقاييس والموازين والمكاييل. وعلم الفلك عنده هو مزيج من المعرفة الدّقيقة بحركات الكواكب والأفلاك، ومعرفة المواقيت بدقّة، من جهة، ثمّ تصوّر ارتباط هذه الحركات بما يحدث معها من الأحداث على وجه الأرض، من جهة أخرى. والجبرتي يرى في هذا نظاماً كونيّاً وتدبيراً إلهيّاً؛ فالأحداث مردّها، في النّهاية، إلى التّدبير الإلهيّ وليس لحركات الأفلاك في ذاتها؛ يقول في مقدّمة الكتاب، بعد حمد الله على النّصر، وعلى جعل الدّولة العثمانيّة والمملكة الخاقانيّة بهجةَ الدّنيا..إلخ: " أمّا بعدُ؛ فإنّ وقائع الأيّام وخطوبها، وحوادث الحادثات وكروبها، لم تزل من حين خلق الله العالمَ متتاليةً، وفي ضمن الأيّام واللّيالي متواريةً، وهي بحسب اقتضاء التّجلّيات ومظاهر الأسماء والصّفات متنوِّعة إلى أنواع، داخلة في حيّز الابتداع والاختراع، بما أودعه اللهُ من الخصائص في الآثار العلويّة عند اقتران بعضها ببعض، وارتباط المناسبات الخفيّة بينها وبين ما على وجه الأرض، وذلك – بحسب جري العادة الإلهيّة – له مسبِّبات وحوادث يستدَّل عليها بتلك القرانات والمناظرات " (1/20-21)، وليدلّل على صحّة نظريّته يضيف بعدها: " وإنّ من أعظم الدّلائل على ما رُميت به مصر، وحلّ به لأهلها تنوّع البؤس والإصر بحلول كفرة الفرنسيس، ووقوع هذا العذاب البئيس، حصول الكسوف الكلّيّ في شهر ذي الحجّة [1213هـ] (ستصل سفن الحملة في العشرين منه!) بطالع مشرق الجوزاء المنسوب إليه إقليم مصر " (1/21). وكان الجبرتيّ حريصاً على أن يميّز بين رؤيته هذه ورؤية الفرنسيّين، الّذين هم " دهريّة معطِّلون، وللمعاد والحشر منكرون، وللنّبوّة والرّسالة جاحدون، ويقولون بقدم العالم وتأثير العلويّة، والحوادث الكونيّة، بالحركات الدّوريّة، وظهور الملل، وانتقال الدّول، بموجب طبع القرانات وامتزاج المناظِرات " (1/63)؛ والفرق واضح بين الإيمان بناموس خلقه الله – ويمكنه اختراقه! – وإيمان بأنّ التّأثير طبيعة لا سبيل إلى تغييرها! والحقيقة أنّ هذا المنطلق الدّينيّ يشكِّل محوراً أساسيّاً من محاور تفكير الجبرتيّ، ورؤيته للأمور، بقدر ما كان مكوِّناً أساسيّاً من مكوِّنات ثقافته. ويتجلّى هذا في صور عدّة: - فنحن نجد هذه الصّورة من التّفكير الدّينيّ في الكتاب منذ المقدّمة، ابتداءً من مدحه لمصر بـ" ذكر الله لها في آيات عديدة من كتابه، وتوصية النّبيّ على أهلها " (1/24)، إلى وصفه للفرنسيّين – على طول الكتاب – بـ" دولة الكُفر " و" الأشرار " و" الكفرة المعتدين "، ووصف الدّولة العثمانيّة ، في المقابل، بـ" دولة الإسلام "، ووصف جيوشها بـ" جيش الإسلام "، ويقول عن السّلطان العثمانيّ : " ولقد كادت تعمّ الرّزيّة، وتصير القضيّةُ أندلسيّةً، لولا عناية مَن أيّده اللهُ بالنّصر التّمكين، وتلا عسكرُهُ المنصورُ، مهما توجّه لمعقِلٍ، آيةَ الفتحِ المبين..غياثِ المسلمين، ملاذِ المؤمنين، ..حافظِ ناموسِ الشّريعة الغراء بقوّة سطوته، باسطِ بساط العدل والإحسان على كامل رعيّته.. سيف الله المسلول على كلّ طاغٍ..قمر الهدى..المحتفِّ بعناية الرّبّ الكريم، مولانا السّلطان الغازي سليم.. " (1/26). ثمّ في مقارنته الوزير يوسف ضيا بنبيّ الله يوسف، عليه السّلام ، الّذي أنقذ مصر من مجاعة، و يوسف صلاح الدّين [الأيوبيّ] الّذي أنقذها " من الفواطم، وأزال البدعة، وأظهر السُّنّة، وبنى قلعة الجبل، وجدّد دولة الأكراد الّتي هي من خير الدّول.. " (1/28). كما تبدو ثقافة الجبرتيّ الدّينيّة في كثير من تعليقاته على أقوال أو " مكاتيب " للفرنسيّين أو أحداث وقعت لهم أو منهم. فمن ذلك تعليقه على البيان الأوّل لنابليون بونابرت ، الّذي طبعه ووزّعه عند نزوله الإسكندريّة، والّذي بدأه بقوله: " بسم الله الرّحمن الرّحيم؛ لا إله إلاّ الله، لا ولد له ولا شريك في ملكه. من طرف الجمهور الفرنساويّ المبنيّ على أساس الحرّيّة والتّسوية..إلخ ". فقد ردّ عليه الجبرتيّ تحت عنوان: " تفسير بعض ما أُودِعه هذا المكتوب من الكلمات المفكَّكة والتّراكيب "المكعبلة" "، قائلاً، بعد أن أورد قوله: " ..في ذكر هذه الجُمل الثّلاث إشارة إلى أنّهم موافقون للملل الثّلاث، ومخالفون لهم، بل ولجميع الملل؛ موافقون للمسلمين في ذكر التّسمية ونفي الولد والشّريك، ومخالفون لهم في عدم الإتيان بالشّهادتيْن وجحد الرّسالة، ورفض الأقوال والأفعال الشّرعيّة المعلومة من الدّين بالضّرورة. وموافقون للنّصارى في غالب أقوالهم وأفعالهم، ومخالفون لهم في القول بالتّثليث وجحد الرّسالة أيضاً، ورفض دياناتهم وقتل القُسس وهدم الكنائس. وموافقون لليهود في التّوحيد؛ فإنّ التّوحيد لا تقوله اليهود بالتّثليث، وإنّما هم مجسِّمة، مخالفون لهم في دياناتهم. والّذي تحرّر من عقائدهم أنّهم لا يقفون على دين، ولا يتّفقون على ملّة؛ بل كلّ واحد منهم ينحو ديناً يخترعه بتحسين عقله. ومنهم الباقي على نصرانيّاته المتكتِّم لها، وفيهم فِرَقٌ من اليهود الحقيقيّين، لكنّ كلّ ذي دين منهم سائر له [كذا! ولعلّها: ساتر له] مُصِرٌّ عليه، موافق للجمهور في ضلالهم المصرّين عليه " (1/61). ويعلّق على قول نابليون في البيان: " وإنّني أكثر من المماليك أعبد الله "، قائلاً: " لا شكّ أنّ هذا خبل في العقل وغلوّ في الجهل؛ أيّ عبادة – فضلاً عن كثرتها – مع كفرٍ غطّى على فؤاده، وحجبه عن الوصول إلى طريق رشاده "؟! (1/62)..إلى آخر ردّه الطّويل الّذي يقوم على هذه الرّؤية الدّينيّة، والنّقد اللّغويّ، كما سنرى، والّذي يشيع فيه وصف نابليون أو كلامِه بالكذب والافتراء والجهل والكفر..إلخ، فضلاً عن انتقاده لسلوك الفرنسيّين المنافي للدّين، كما سنرى. أمّا استشهاده بالقرآن الكريم وأحاديث الرّسول، صلّى الله عليه وسلّم، في كلامه بعامّة وفي تعليقه على أحداث مختلفة، فهي كثيرة. ولم يكن الجبرتي فريد عصره في هذه الرّؤية الدّينيّة، بل إنّها كانت سمة العصر وسمة ثقافته. بل إنّ الآخرين – وفيهم "علماء"زادوا عليها ما يمكن أن نطلق عليه مظاهر " التّديّن الشّعبيّ "، الّتي يبدو أنّ الجبرتيّ لا يوافق عليها، لكنّه لا يعترض. يقول: " وكان العلماء، عند توجّه مراد بك للقتال، يجتمعون في الأزهر كلَّ يوم لقراءة [صحيح] البخاري وغيره من الأذكار والدّعوات. وكذلك مشايخ فقراء [يعني متصوّفة] الأحمديّة والسّعديّة والرّفاعيّة، وغيرهم من مشايخ الفقراء وأرباب الأشاير [الرّايات الدّالّة على الفرق الصّوفيّة]؛ كلَّ يوم يذهبون للأزهر فيجلسون للأذكار والدّعاء. ويجتمع أطفال الكتاتيب للدّعاء وتلاوة اسمه تعالى "لطيف". وكلّ هذا حصل بسببه النّفع العظيم؛ فهو، وإن لم يدفع دخول الفرنسيس مصر؛ لكونه أمراً مقضيّاً محتّما، لا يُردّ بالدّعاء، لكن وقع اللُّطف الجزيل بسبب هذه الدّعوات، واجتماعِ القلوب بمجالس الذِّكر والاستغفار. وآثار اللُّطف الّتي حصلت مشاهَدة لا تُنكر ولله الحمد " (1/66). بل إنّ هذه المظاهر كانت حاضرة وسط عمل حقيقيّ للمقاومة قام به أهل مصر من عامّة النّاس؛ يقول الجبرتيّ: " وفي الثّلاثاء (17 يولية 1798م، 3صفر 1213هـ) نادوْا [أي العلماء] بالنّفير العامّ وخروج النّاس للمتاريس، وصاروا يكرِّرون المناداة كلّ يوم؛ فأغلق النّاس الدّكاكين والأسواق، وخرج الجميع لبرّ بولاق؛ فكانت كلّ طائفة من طوائف أهل الصّناعات يجمعون الدّراهم من بعضهم، وينصبون خِيَماً، أو يجلسون في مكان خرِب أو مسجد، ويرتّبون لهم قيِّماً يصرف عليهم ما يحتاجون له من الدّراهم الّتي جمعوها من بعضهم. وبعض النّاس يتطوّع بالإنفاق على البعض الآخر، ومنهم من يجهِّز جماعة من المغاربة والشّوام بالسّلاح والأكل وغير ذلك؛ بحيث إنّ جميع النّاس بذلوا وسعهم، وفعلوا ما في قوّتهم وطاقتهم، وسمحت نفوسهم ببذل أموالهم؛ فلم يشحّ، في ذلك الوقت، أحدٌ بشيء يملكه، ولكن لم يساعدهم الدّهر "! لكن وسط هذه المظاهر المقاوِمة للنّاس " خرج الفقراء [المتصوّفة] وأرباب الأشاير بالطّبول والزُّمور والأعلام والأشاير والكاسات، وهم يضجّون ويصيحون ويذكرون بأذكار مختلفة. وصعد نقيب الأشراف السّـيّد عمر [مكرم] للقلعة؛ فأنزل منها بيرقاً كبيراً، أسمته العامّة "البيرق النّبويّ"؛ فنشره من القلعة إلى أن وصل به إلى بولاق، وهو راكب، ومعه ألوف العامّة بالنّبابيت والعصي يهلِّلون ويكبّرون ويكثرون من الصّياح، وبصحبته طبول وزمور وغير ذلك " (1/67). ومن الواضح أنّ المصريّين لم يكونوا مؤهّلين للقتال، ولا يملكون سلاحه، بعد أن خرجت أمور القتال، حتّى دفاعاً عن بلادهم، من أيديهم، منذ استيلاء المماليك على الحكم. ومن هذه الرّؤية الدّينيّة، كذلك، ينبع موقف الجبرتيّ من الدّولة العثمانيّة ، التّي قدّم لكتابه، كما رأينا، بمدحها ومدح سلطانها ووزيره، ومدحه كلّه لهم ينصبّ على إقامتهم للشّريعة، وحمايتهم لديار الإسلام من عدوان الكافرين – كما فعلوا بعكّا، أو استنقاذها من أيديهم إن سقطت، كما حدث لمصر! ويبدو موقفه، هنا، متّسقاً مع الموقف الّذي لعبته الدّولة العثمانيّة في العمل الجادّ لاستنقاذ مصر من أيدي الفرنسيّين، حتّى أنّهم نسوا خلافاتهم مع كلٍّ من إنجلترا – مع أنّهم كانوا عارفين، لابدّ، بأطماعها في مصر! – ومع روسيا؛ لاستكمال حصار الفرنسيّين في مصر حتّى اضطرّوا إلى الخروج منها أخيراً. ثمّ اتّساقاً أيضاً مع إهدائه الكتاب إلى يوسف ضيا، وزير الدّولة العثمانيّة الّذي "استلم" مصر من الفرنسيّين. غير أنّ هذا لم يمنعه من توجيه الانتقادات المريرة إلى ما كان جنودهم والعاملون معهم يرتكبونه من المظالم والفساد. يروي أنّه في الثّاني عشر من جمادى الآخرة1216هـ (9/9/1801م) " وقع من العساكر عربدة بالأسواق، وانزعجت النّاس، ورفعوا متاعهم من الحوانيت، وأُغلق بعض الجهات؛ فحضر أكابر العساكر فكفّوهم، وراق الحال من غير حصول ضرر كبير " (2/185). كما يحكي أنّه في مطلع شعبان1216هـ (7/12/1801م) " تقيّد [أي عّيِّن] بأبواب القاهرة بعض من نصارى القبط ومعهم بعض العسكر؛ فصاروا يأخذون دراهم من كلّ مَن وجدوا معه شيئاً، سواء كان داخلاً أو خارجاً، وعلى ما يُجلب لمصر من الأرياف. وزاد تعدّيهم؛ فعمّ الضّرر وعظم الخطب، وغلت الأسعار. وكلّ مَن ورد بشيء ليبيعه يشتطّ في ثمنه، ويحتجّ بأنّه دفع كذا وكذا من دراهم المكس؛ فلا يسع المشتري إلاّ التّسليم لقوله والتّصديق له " (2/189). غير أنّ هذه الانتقادات كانت – في " عجائب الآثار.. " - مريرة، بعد أن كثرت شكاوى النّاس من مظالمهم وعبثهم، حتّى " تَمَنّوْا أن يعود الفرنسيس "! ومنها، كذلك، ينبع موقفه من الفرنسيّين؛ فقد كان جانب لا بأس به من رؤيته لهم، في هذا الكتاب بخاصّة، رؤية دينيّة خالصة. وقد رأينا مناقشته لادّعاءات نابليون في بيانه الأوّل، والّتي انتهت إلى أنّهم قوم لا دين لهم، وأنّ معتقداتهم الفاسدة قد تصل إلى تناسخ الأرواح ، " إلى غيرها من الأشباح، ومثل ذلك من الخيالات، وأنواع الضّلالات. وعقيدتهم السّالكون فيها تحكيم العقل، وما تستحسنه النّفوس بحسب الشّهوات " (1/63-64). ومن هنا يأتي انتقاده المُرّ لألوان من سلوكهم ومظاهرهم المجافية للالتزام الدّينيّ؛ فهم " لا يبالون بكشف العورات، مع قبحه في العقل والنّقل؛ فمتى دعت أحدَهم الحاجةُ قضاها في أيّ مكان اتّفق، ولو بمرأى من النّاس، ويذهب كما هو في غير استنجاء ولا استجمار، وتارة يمسح المحلّ بما يجده، ولو ورقةً مكتوبة، ويطؤون مَن يتيسّر لهم من النّساء. ويحلقون لحاهم وشواربهم معاً. ومنهم مَن يبقي شعر عارضيْه فقط. ولا يحلقون رؤوسهم ولا عاناتهم. ويخلطون في مأكولهم ومشروبهم. ولا يخلعون نعالاتهم أبداً، ويطؤون بها على الفُرُش الثّمينة. ويمخطون ويبصقون على الفِراش ويمسحونه بالمداس " (1/64). ومَن على دين منهم – أيّاً كان هذا الدّين - يجتهد في ستره، حتّى تستقيم أموره مع الجماعة. كما ينتقد سلوكهم سياسيّاً، كذلك، حين يلاحظ أنّهم أفسدوا الأسواق بسلوكهم الّذي كان نابعاً من الرّغبة في خداع النّاس؛ فـ" كانوا يأخذون المشتروات بزيادة عن ثمنها. وهذه من أعظم المكايد لأجل إضلال عقول العامّة. وانهمكوا على أنواع المأكولات مثل الكلاب السّعرانة؛ ففجر السُّوقةُ، وصغّروا الخبز، وطحنوه بترابه، وباعوا البيضة بنصف فضّة، بعد أن كانوا يبيعون كلّ أربع بيضات بنصف، وفتح النّاس عدّة دكاكين بجوارهم، يبيعون فيها أصناف المأكولات، كالفطير الكعك والسّمك المقليّ واللّحوم والفراخ المحمّرة " (1/82). أمّا رصده لشَرَههم للمال، وجمعهم له من كلّ سبيل، وفرضهم الضّرائب الباهظة على النّاس لأتفه الأسباب؛ عقاباً لسلوك لم يُرضِهم أو للاستعانة به في إمدادات الجيش، أو لمجرّد أن يسلبوا النّاس أموالهم حتّى لا يستطيعون التّفكير في المقاومة. يروي الجبرتيّ، مثلاً، أنّهم، بعد دخولهم بأيّام، " طلبوا أهل الحرف من التّجّار بالأسواق، وقرّروا عليهم جملة يعجزون عنها من المال، ويزعمون أنّها سُلفة إلى ستّين يوماً؛ فضجّوا واستغاثوا، وذهبوا إلى الجامع الأزهر والمشهد الحسينيّ، واستشفعوا بالمشايخ؛ فتكلّموا لهم؛ فأضعفوها [نزلوا بها] إلى النّصف، ووسّعوا لهم في أيّام المهلة " (1/84).كما يروي الكثير عن مداهماتهم لبيوت أمراء المماليك والتّجّار الهاربين ونهب ما فيها من الأموال والأسلحة، بل والفرش والنّفائس، واستيلائهم على البيوت والقصور إن كانت خالية، وإزعاج النّساء والأولاد وإرهاقهم بطلب الأموال "للمصالحة" إن كانت ما تزال مسكونة. وقد قتلوا السّيّد محمّد كُريّم، حاكم الإسكندريّة ومدير جماركها، لأنّه رفض مثل هذه المصالحة على حياته! (وبالمناسبة، فموقف الجبرتي من كُريّم سلبيّ للغاية!). ويرصد الجبرتي حيل الفرنسيّين لجباية الأموال عن طريق ما سمّوه بمحكمة القضايا، وهي محكمة تختصّ بالفصل في المنازعات التّجاريّة والمدنيّة، وكانت تتكوّن من ستّة من القبط، وستّة من التّجّار المسلمين، وقاضيها الكبير ملطي القبطيّ " وفوّضوا إليهم القضايا في أمور التّجّار والعامّة والمواريث والدّعاوى. وجعلوا لذلك الدّيوان [المحكمة] قواعد من الخبث وأساساً من الكفر، ودعائم من الظّلم، وأركاناً من البدع السّيّئة..وشرطوا في ضمنه شروطاً، وفي ضمن تلك الشّروط شروطاً أخرى..محصّلها التّحيّل على سلب أموال النّاس، ونزع ما بأيديهم من مال وعقار وميراث، وغير ذلك " (1/107)، ويبسط ما يكشف عن هذا التّحيّل في استخراج الأموال من النّاس، ثمّ يعلّق قائلاً: "وهذا من أخبث الحيل على نزع الأملاك والعقارات من أيدي أربابها (ويبدو أنّ الجبرتي كان ممن مسّتهم هذه القوانين مباشرة؛ فقد ترك له والده أموالاً طائلة وعقارات)، ولنذكر أنّ الضّرائب على العقارات كانت من أهمّ أسباب ثورة القاهرة الأولى. وسيلاحظ القارئ للوهلة الأولى أنّ ما تمّ من هذا كلّه في أيّام نابليون، وعلى الرّغم من ثقله، لم يكن شيئاً إذا قيس بأيّام كليبر ومينو، وقد فقدت الحملة اتّصالها بفرنسا، وكان عليها أن تدبِّر أعباءها، وهي ثقيلة بالتّأكيد، من أموال المصريّين وحدها! ولا يقلّ شرههم للدّماء عن شرههم للمال، بل إنّ أحدهما يستبدل به الآخر في سهولة. وقد رأينا كيف قُتل محمّد كُريّم، وكان يستطيع أن يُفلت بالمال، وهو ما حدث مع " رجل شريف يُقال له السّيّد أحمد الزَّرو، من تجّار وكالة الصّابون بخُطّ المّاليّة" الّذي نَقَل كلاماً عن رجل نصرانيّ – وكان الكلام صحيحاً! – عن وصول الإنجليز إلى الإسكندريّة ومحاربتهم لسفن الفرنسيّين؛ فحكموا على الرّجلين بقطع لسانيْهما، ثمّ بعد الشّفاعات غرّموهما مائتيْ ريال فرانسة، تبرّع بها نابليون للفقراء! وفي تأريخه للسّادس عشر من ربيع الثّاني 1213(27/9/1798م) قال: " وفيه قتلوا شخصيْن وطافوا برؤوسهما وهم ينادون عليهما ويقولون: " هذا جزاء مَن يأتي بمكاتيب من عند المماليك ويروح إليهم بمكاتيب " (1/111)، مع العلم بأنّهم فعلوا هذا من قبل مع السّيّد محمّد كُريّم الّذي "أركبوه حماراً، واحتاط به عدّة من العساكر بأيديهم السّيوف المسلولة، ويقدمهم طبلهم يضربون عليها، وشقّوا به الصّليبيّة إلى أن ذهبوا إلى الرّميلة، وكتّفوه وربطوه مشبوحاً، وضربوا عليه بالبنادق كعادتهم فيمَن يقتلونه، ثمّ قطعوا رأسه، ورفعوها على نبّوت، وطافوا بها جهة الرّميلة، والمنادي يقول: " هذا جزاء مَن يخالف على الفرنسس " (1/96). وما حدث في قمعهم لثورة القاهرة الثّانية، من الهدم والقتل والحرق، مشهور. ولعلّ من أكثر ما أزعج الجبرتيَّ من سلوكهم استهانتهم بالقلعة، أوّلاً، حين أمروا سكّانها (لا ندري أسكّان القلعة نفسها أم سكّان الحيّ؟) بالنّزول إلى المدينة ليسكنوا بها؛ فنزلوا؛ فأصعدوا إلى القلعة " مدافع ركزوها بعدّة مواضع، وهدموا بها أبنية كثيرة، وشرعوا في بناء حيطان وكرانك [متاريس] وأسوار، وهدموا أبنية عالية، وأعلوا مواطئ منخفضة، وبنوا على بَدَنات [مداخل] باب العِزَب بالرّميلة، وغيّروا معالمها، وأبدلوا محاسنها، ومحوا ما كان بها من معالم السّلاطين وآثار الحكماء والعظماء، وسلبوا ما كان بأبوابها العظام وإيواناتها الفخام من الأسلحة...وهدموا قصر يوسف صلاح الدّين [الأيوبيّ]، ومحاسن الملوك والسّلاطين، ذوات الأركان الشّاهقة والأعمدة الباسقة، وكذلك ما بها من المساجد والزّوايا والمشاهد، وشوّهوا المسجد العظيم، والجامع المشيّد الفخيم، الّذي أنشأه صاحب المفاخر، محمّد بن قلاوون الملك النّاصر؛ فقلعوا منبره، وشعّثوا إيوانه، وأخذوا أخشابه، وزعزعوا أركانه، وأزالوا المقصورة الحديديّة البديعة الإتقان الّتي كان يصلّي بداخلها السّلطان، وحسبنا الله ونعم الوكيل " (1/110-111). ثمّ استهانتهم البشعة بالأزهر الشّريف، المكان والمحتوى والقيمة. فبعد قمع ثورة القاهرة الأولى، دخلت جيوش نابليون الأزهر " وهم راكبون الخيول، وولجوه من الباب الكبير، وخرجوا من الباب الثّاني حيث موقف الحمير. وداس فيه المشاة بالنّعالات، وهم يحملون السّلاح والبندقيّات، وتفرّقوا في صحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقِبلته، وعاثوا بالأروقة والبَحَرات، وكسروا القناديل والسّهّارات، وفتحوا خزائن الطّلبة، والمجاورين والكَتَبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع، والأواني والقِصاع، والودائع والمخبّآت، بالدّواليب والخزانات. وشقّقوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالاتهم داسوها، وأحدثوا بالمسجد، وبالوا، وتغوّطوا، وشربوا الشّراب وكسروا أوانيه، وألقوها في صحنه ونواحيه، وكلّ مَن صادفوه به عرّوه، ومن ثيابه أخرجوه. ووجدوا في بعض الأروقة إنساناً فذبحوه، ومن الحياة أعدموه. وفعلوا بالجامع الأزهر ما ليس عليهم بمستنكر؛ لأنّهم أعداء الدّين، وأخصام متغلّبون، وغرماء متشمِّتون، وضِباع متكالبون، وأجناس متباينون، وأشكال متعاندون. وأعطى، تلك اللّيلة، جيشُ الرّحمن فُسحةً لجيش الشّيطان؛ لِرهن لزمه فأدّاه، وقطعٍ كان عليه فتعدّاه " (1/131). وفي مقابل هذا يلحظ الجبرتيّ من سلوكهم، أوّل دخولهم القاهرة، أنّهم " امتلأت منهم الطّرقات،وسكنوا البيوت، وضاقت منهم الحارات، ولكن لم يشوِّشوا على أحد "، وهي الملاحظة الّتي يكرّرها في تأريخه ليوم الثّامن والعشرين من صفر 1213هـ (11أغسطس 1798م) حيث يذكر أنّهم ملكوا مدينة بلبيس، "وكان فيها بقيّة من الحُجّاج؛ فلم يشوّشوا عليهم، وأرسلوهم إلى مصر مع ناس من عساكرهم. وقول عن يوم العشرين من ربيع الأوّل 1213هـ "قلّدوا مصطفى بك، كتخدا الباشا، على إمارة الحجّ، وأحضروه إلى المحكمة وألبسوه هناك بحضرة مشايخ الدّيوان، والتزم بونابرته بجميع مهمّات الحجّ وعمل محمل جديد" (1/90). ويسوق الجبرتي كثيراً من تنظيمات الفرنسيّين السّياسيّة والاجتماعيّة والعلميّة، ويعلِّق على القليل منها، ويهمل التّعليق على البعض الآخر. من ذلك، مثلاً، حرصهم على أن يطبعوا كلّ ما يصدرونه من أوامر أو قرارات أو قوانين في أوراق، ويعلّقونها في الشّوارع وعلى أبواب البيوت؛ فلم يعلّق الجبرتي على ظهور المطبعة نفسها، أوّلاً؛ فهل كان يعرفها من قبل؟! ثمّ لم يعلّق، ثانياً، على هذه "العادة" – كما يصفها – من عاداتهم من "الإعلان" عن كلّ ما يصدر عنهم، ولنذكر أنّ المطبعة أتاحت ظهور الصّحافة، لأوّل مرّة، في مصر. صحيح أنّها كانت فرنسيّة، لكن لابدّ أنّه رأى منها أو سمع عنها شيئاً، لكنّه، في النّهاية، لم يعلّق! كما لم يعلّق على الدّواوين الّتي توالى إنشاؤها في مصر، في القاهرة والمحافظات أولاً، ثمّ في القاهرة وحدها بعد ذلك، ومع أنّه شارك في أحدها – هو الأخير – وكان على اتّصال دائم بأصدقائه من أعضائها. أمّا الأغرب – في هذا الكتاب – فهو أنّ المجمع العلميّ الفرنسيّ لم يلق منه أيّ تعليق، وذكر فقط أماكن وجوده، ولم يذكر من أخباره إلاّ خبراً عن " إهداء كبير الأطبّاء الفرنسيّين لأعضاء الدّيوان رسالة ألّفها عن مرض الجدري ". ومصر – طوال تاريخها تقريباً، وبحكم موقعها وظروفها – بلد متعدّد الأعراق والأديانـ تحكم عناصَره، دائماً، علاقات المودّة والتّعاون والوئام، إلاّ أن يتدخّل عنصر أجنبيّ في إفساد هذه العلاقات. وهو ما حدث من الفرنسيّين ومعهم. فالفرنسيّون، في الوعي الجمعيّ المسلم، نصارى (على الرّغم من تأكيد نابليون – في بيانه الأوّل – أنّه مسلم، ومناصر للدّولة العليّة، وأنّه "حطّم كرسيّ البابويّة"، ثمّ نفي الجبرتي عنهم الإيمان بأيّ دين)؛ فتوجّس المسلمون من أن يخونهم النّصارى ويتعصّبوا لأبناء دينهم، الفرنسيّين، عليهم! وعزّز الفرنسيّون هذا الإحساس بأن أسندوا إلى النّصارى، سواء كانوا من الأقباط أو من الشّوام أو الأروام، المناصب (وبخاصّة المناصب القبيحة الّتي تزيد كراهية النّاس لهم، كجباية الضّرائب، والإشراف على الأمن!)، ورفعوهم على المسلمين. فالفرنسيّون، بمجرّد دخولهم القاهرة " قلّدوا برطلمين الرّوميّ النّصرانيّ، وهو الّذي تسمّيه العامّة "فرط الرُّمّان" [لشدّة احمرار وجهه، فيما يبدو!]، جعلوه كَتْخُدا مستحفظان (أي وكيلاً لمحافظ القاهرة). والمذكور من أسافل نصارى الأروام العسكريّة المقيمين بمصر"؛ فخرج، في أُبّهة وزينة، إلى البيت الّذي اغتصبه، "وسكن اللّعين المذكور ببيت يحيى كاشف الكبير بحارة عابدين، واحتوى [أي استولى] عليه بما فيه من الفرش والمتع والجواري وغير ذلك " (1/81). كما يلاحظ الجبرتيّ أنّ "النّصارى القبط" كانوا يجتمعون كلّ يوم عند "الرّزنامجي"؛ أي المشرف على ديوان الضّرائب، تمهيداً لقيامهم بمهمّة جمع الضّرائب. وفي العشرين من ربيع الأوّل 1213هـ " قطعوا كُلَفاً وتفاريد على البلاد، وكتبوا بذلك أوراقاً، وذكروا فيها أنّها [أي هذه الأموال] تُحسب من المال [أي من الضّرائب]، ورتّبوا لذلك الصّيارف من القبط، ونزلوا [أي القبط] في البلاد كالحكّام، وبلغوا أغراضهم من المسلمين بالضّرب والحبس والإهانة والتّشديد في الطّلب، والتّخويف بإحضار عساكر الفرنج إن لم يدفعوا بسرعة. وكلّ ذلك بترتيب القبط ومكرهم " (1/90). ويبرز من بين القبط اسم يعقوب القبطيّ، وكان أوّل ظهوره في الكتاب في تأريخ يوم الخامس عشر من ربيع الأوّل 1213هـ؛ ففيه " سافر عدّة كبيرة من عسكر الفرنج إلى جهة الصّعيد وعليهم الصّاري عسكر المتولّي على الصّعيد اسمه "دِزِه" [الجنرال ديزيه Desaix ]، وبصحبتهم يعقوب القبطيّ ليدبِّر لهم الأمور، ويعمل لهم أنواع المكر والخداع، ويطلعهم على الخبايا، ويصنع لهم الحيل " (1/89). ثمّ يصبح إحدى أيادي الفرنسيّين في التّنكيل بالنّاس وإذلالهم؛ يحكي الجبرتي أنّه، في أثناء الثّورة الأولى، " حدّد محلّ إقامته في داره بالدّرب الواسع جهة الرّويعي، واستعدّ استعداداً كبيراً بالسّلاح والعسكر المحاربين؛ فكان معظم حرب الجدّاويّ معه " (2/41). وبعد إخماد ثورة القاهرة الثّانية فُرضت غرامات باهظة على النّاس بعامّة، وعلى مشايخ الأزهر المشاركين في الدّيوان بخاصّة؛ فقد خصّهم كليبر بعشرة ملايين ريال فرنج (تساوي مليوني ريال فرنسيّ)؛ فحاولوا الاستشفاع عنده، ولم يجدوا إلاّ " يعقوب القبطيّ وأنظاره ". وقد أطلق كليبر يده في تحصيل الغرامات؛ فـ"عمل ديواناً لخاصّة نفسه، ورتّبه ببيت الباروديّ، وأحضر المباشرين ومشايخ الحِرَف والأخطاط، وكتب القوائم، وقرّر على الأماكن والعقارات والأوقاف أجرة سنة، وألزم كلَّ كبير في خطّه بتحصيل ما تقدَّر على خطّه، وأعطوهم عسكراً من الفرنسيس يستعينون بهم في التّحصيل. وعمل كلّ كبير في جهة له ديواناً، واجتمع عنده كتبة مختصّة به، قبطة ومسلمون وأعوان، وبعض الفرنسيس؛ فطلبوا من النّاس ضعف ما قدّره يعقوب ليكتسبوه لأنفسهم، وبثّوا أعوانهم من القوّاسة وعسكر الفرنسيس في طلب النّاس وحبسهم وضربهم وعقابهم، والمرجع في ذلك كلّه إلى الدّيوان الكبير، وهو ديوان يعقوب؛ فدُهي النّاس بهذه الدّاهية الّتي لم يصابوا بمثلها ولا بما يقاربها" (2/57-58). وكان طبيعيّاً، بعد هذا كلّه أن يلتحق يعقوب بالفرنسيّين عند خروجهم من مصر، ويقضي بقيّة حياته فيها. وعلى النّحو نفسه سلك نصارى الرّوم؛ فقد بدأوا بالتّجارة، معهم ومشاركتهم احتفالاتهم وأعيادهم؛ يقول الجبرتيّ: "وفتح نصارى الأروام عدّة دكاكين لبيع المُسكِرات، وعدّة خمامير وقهاوي. وطافت جماعة من النّصارى في الأسواق تبيع العرقيّ كسُقاة الماء، وصاروا ينادون عليه بالأسواق بلغته، وفحش ذلك جدّاً" (1/82). وفي خامس ربيع الأوّل1213هـ (17أغسطس1798م) الموافق لثالث عشر مسرى القبطيّ كان وفاء النّيل المبارك؛ فأمر كبير الإفرنج بالاستعداد لذلك وتزيين العقبة على العادة"، وخرج نابليون في زينته، واستدعى المسئولين ورجال جيشه، وركب معهم بموكبه وزينته وعساكره وطبوله وزموره إلى قصر قنطرة السّدّ، وكسروا الجسر..ولم يخرج أحد من النّاس في تلك اللّيلة للتّنزّه في المراكب كجري العادة، سوى النّصارى الشّوام والقبط والإفرنج ونسائهم وقليل من البطّالين حضروا في صُبحها بقلوب منكسرة ونفوس ضعيفة" (1/87). وإن كان الجبرتيّ يشير، في الوقت نفسه إلى بعض مظاهر التّعصّب ضدّهم، الّتي ربّما دفعت بعضهم إلى التّطرّف في الانحياز للفرنسيّين. يقول الجبرتيّ: " وطلب أمراءُ مصر [المماليك] الإفرنجَ الّذين هم تجّار بمصر؛ فحُبس بعضهم بالقلعة، وبعضهم بأمان الأمراء [أي بيوتهم]، وصاروا يفتِّشون في محلاّت الإفرنج عن الأسلحة وغيرها، وكذلك يفتّشون بيوت النّصارى الشّوام والأقباط والأروام، والكنائس والأديرة، على الأسلحة. والعامّة لا ترضى إلاّ أن يقتلوا النّصارى واليهود؛ فيمنعهم الحكّام عنهم؛ ولولا ذلك المنع لقتلهم العامّة في وقت الفتنة " (1/68). ورث الجبرتي عن أبيه أموالاً طائلة وبيتيْن، أحدهما بالصّنادقيّة بجوار الأزهر، والآخر في بولاق – آل بعضها إلى الأب الشّيخ عن مواريث، وبعضها عن التّجارة! – وآلت جميعاً إلى عبد الرّحمن. وعلى الرّغم من هذا فقد كان قريباً من النّاس، يعرف أوجاعهم وآلامهم، كما يجوب الشّوارع والحارات ليطّلع بنفسه على ما يدور فيها. ومع هذا فقد نلمح له مواقف من العامّة تبدو استعلائيّة، وبخاصّة حين تميل العامّة إلى الثّورة والعنف، وما يتّصل بهما من السّلب والنّهب والتّحطيم! فيصفهم حينئذٍ بـ" الحشرات "، و" زُعر الحارات " (كما يفعل في أوّل وصفه لثورة القاهرة الأولى – جمادى الأولى 1213- أكتوبر 1798)؛ فالواضح أنّ الجبرتيّ – رجل العلم والمال! - لم يكن يميل إلى العنف والثّورة، وربّما كان يميل إلى السّياسة والتّفاهم. على أيّة حال فهو يترك قارئه في موقف ملتبس؛ صحيح أنّه لم يَسْعَ إلى التّعاون مع الفرنسيّين فيما أقاموه من أنظمة، لكنّه – فيما يبدو – لم يكن يرفض هذا التّعاون، حتّى أنّه حين طُلب للاشتراك في "الدّيوان" الّذي شكّله جاك مينو، القائد الثّالث للحملة، لم يرفض، بل شارك فيه! يقول عن مستهلّ جمادى الثّانية 1215 (20أكتوبر 1800): " وفيه شرعوا في ترتيب الدّيوان على نسق غير الأوّل (يعني لأيّام نابليون وكليبر) من تسعة أنفار متعمِّمين لا غير ؛ أي علماء لا غير، وليس فيهم قبطيّ ولا وجاقليّ ولا شاميّ ولا غير ذلك. وليس فيه خصوصيّ ولا عموميّ، على ما سبق شرحه، بل هو ديوان واحد مركّب من تسعة أشخاص، وكاتبيْن مسلميْن، وكاتب فرنساويّ، وترجمانيْن، كبير وصغير، والوكيل المسمّى بلسانهم كمساري (قوميسير Commissaire ) ومعناه اسم الوكيل، واسم ذلك فوريه (فورييه Fourier )، ويقال له: مدير سياسة الأحكام الشّرعيّة. وجعلوا لخدمة ذلك الدّيوان مقدَّماً وخمسة رجال قوّاسة " (2/ 79-80). ولرجال الأزهر أدوار خطيرة في |
2 مشترك
كتاب الجبرتي مظهر التقديس قراءة ثقافية للأستاذ الدكتور /عصام بهي
د. أحمد الصغير المراغي- عضو نشيط
- عدد المساهمات : 42
تاريخ التسجيل : 24/09/2009
د. أحمد محمد سليمان- Admin
- عدد المساهمات : 1179
تاريخ التسجيل : 07/08/2009
موضوع رائع واستفدت منه بشكل كبير
وعندي تاريخ الجبرتي في مكتبتي الخاصة
وهو فعلا كتاب رائع بحق
وكذا كتابه الآخر قرأت فيه كذلك
وتحليل ونقد ورؤية أستاذك أضافت الكثير من الأضواء الجميلة على هذا الكتاب
بارك الله فيك وفي أستاذك أخي الكريم
وعندي تاريخ الجبرتي في مكتبتي الخاصة
وهو فعلا كتاب رائع بحق
وكذا كتابه الآخر قرأت فيه كذلك
وتحليل ونقد ورؤية أستاذك أضافت الكثير من الأضواء الجميلة على هذا الكتاب
بارك الله فيك وفي أستاذك أخي الكريم
د. أحمد الصغير المراغي- عضو نشيط
- عدد المساهمات : 42
تاريخ التسجيل : 24/09/2009
شكرالك أخي الكريم ، ادعو له بالرحمة ،لأن أستاذي الدكتور عصام بهي أعز انسان عندي في الوجود وهو صاحب فضل كبير علي ، علمني وقومني ، أسأل الله العظيم أن يرحمه آمين