قراءة في ديوان صمت للشاعر الدكتور/ مصطفي رجب
الكاتب د. أحمد الصغير
الأحد, 08 فبراير 2009 01:12
د. أحمد الصغير
إن المتتبع لأعمال الشاعر الدكتور مصطفي رجب الشعرية، يدرك تمام الإدراك أنه أخلص- وما يزال ـ لروح للقصيدة العربية الحديثة التي أرسي دعائمها محمود سامي البارودي، وحاول أن يبعثها من جديد، من خلال المعارضات والمحاكاة التي قام بها البارودي في القرن التاسع عشر، ومن ثم فإن شاعرنا الفذ حاول أن يسير علي النهج نفسه، مواكباً التطورات التي حدثت في العالم العربي من تجديد وتحديث للقصيدة العربية وانتقالها من الكلاسية إلي التفعيلية علي يد صلاح عبد الصبور ونازك الملائكة والسياب وأحمد عبد المعطي حجازي، ومن ثم فإن الشاعر الدكتور مصطفي رجب هو ابن القصيدة التفعيلية التي قدم فيها أكثر من خمسة دواوين شعرية (الصيد في الماء الرائق، والشروحات، اعتراف جديد لابن أبي ربيعه، وعنترة يغير أقواله، الديوان الحلمنتيشي) ويأتي هذا الديوان (صمت) ليؤكد علي قوة هذه الشعرية التي يتميز بها الشاعر مصطفي رجب، فقد جاءت لغة الديوان معبرة عن الحالة الشعورية التي يعيشها الإنسان العربي من المحيط إلي الخليج، فاللغة الشعرية لا تنفصل عن الذات الشاعرة، فهي مجموعة من المفردات/ الدوال التي تسهم في عملية بناء النص الشعري إسهاماً عظيما، ويمكن أن نلاحظ ذلك في قصيدة بعنوان(أبجدية أخرى) يقول الشاعر مصطفي رجب:
الفاء: فرقعة الخطب
واللام: لام الأمر للساقي الأغر
"فاليوم خمر"
وغدا له رب يدبره
والسين : حرف شلل
السين تدخل فعلنا العربي تنحره
وفي جب الغد المجهول تلقيه بغير أمل
من الملاحظ في المقطع السابق أن الشاعر يتكئ علي الحس السياسي الساخر الذي لا نسمع منه إلا فرقعة الخطب الجوفاء، ويشي المقطع أيضاً بالمفارقة الأليمة التي خلقها الشاعر من خلال استخدامه للحروف (الفاء، اللام، السين، والطاء....الخ) فهي بمثابة الرموز التي حاول الشاعر أن يخرجها من دلالتها المباشرة إلي دلالاتها العميقة علي حد قول اللغوي (جاكسون)، إنه يتحدث عن اللغة باللغة وكأننا أمام نص لغوي يحاول أن يستنطق حروف اللغة حرفا حرفا، فقد يميل هذا النوع إلي ما عرف (بالميتالغة) عند (تشومسكي).
إن الحس الساخر لدي مصطفي رجب مفعم بالحزن الذي يجعلنا من شدة أثره نلج في عوالم أخرى غير عالمنا المباشر. يستمر الشاعر الدكتور مصطفي رجب في استنطاق الحروف بوصفها رموزاً لأشياء حية في الواقع فيقول:
والطاء: طين القادسية، طين خيبر،
حولته يد السلاطين/ التتار إلي حبب
والياء: "يشرب غيرنا كدراً" ونشرب إن وردنا الماء"
هل مازال ماء؟
والنون: نحن إذا الجبابر عندنا خرت
لأصغرنا
ونحن إذا المدائح عندنا كيلت لأشطرنا
ونحن إذا ابن هند سامنا خسفاً
وقبلنا يديه.
يستدعي الدكتور مصطفي رجب في المقطع السابق معركة القادسية، وخيبر وهذا الاستدعاء لا يخلو من دلالة فنية مفادها أن العرب كانت لديهم مفاخر وانتصارات، هذه الانتصارات حولتها يد السلاطين إلي هزائم من جراء الخنوع والخوف والتجرد من النخوة، والرجولة الحقيقية.
ومن اللافت للنظر أن الشاعر مصطفي رجب اتكأ علي تقنية التناص الشعري، فقد تناص مع قول عمر بن كلثوم:
ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطينا
وتكمن المفارقة في هذا النص السابق من خلال التناص الذي حاول الشاعر أن يصوغه داخل نسيج النص الشعري، فانشغل بتقديم المشهد القديم الفخر/ والمشهد الحديث الهزيمة فيتساءل هل مازال ماء؟ إن السؤال الحارق الذي أنهي به الشاعر مقطوعته الشعرية يشي بالمرارة الدفينة والوجع الأليم الذي أصاب الذات العربية في مقتل. وتتجلي تقنية التناص الشعرية أيضا في قوله:
والسين "سافر إن تجد عوضا" فأرضك
"جحر ضب"
والطاء طبل طرب!!
والياء حرف ندا
لمن احتسي وشدا!
اليوم يا قوماه خمر
وغداً – إذا ما جاء – خمر!!
والنون نامي في هدوء أمتي إذ ليس يحسن
أن تنامي في غضب"
تنتنوع مناطق التناص الشعري في المقطع السابق، حيث إن الشاعر يتناص مع قول الإمام الشافعي:
"سافر تجد عوضا عمن تفارقهم: والنصب فإن لذيذ العيش في النصب"
يميل الشاعرمصطفي رجب إلي استرفاد القديم ومحاولته واستنهاضه حتى تحس القلوب التي ملأها الصدأ واستعمرتها الملذات، ثم يعود ليستنطق حرف الطاء، وكأن المجتمع العربي طبال "ورقاص وهماز ومشاء بنميم" ويعود ليفجعنا بقوله: اليوم يا قوماه خمر وغداً – إذا ما جاء – خمر!!
نلاحظ في هذه العبارة صوت امرئ القيس عندما قال اليوم خمر وغداً أمر وكأن امرأ القيس بضلالته ومجونه أصبح كامناً ومعربداً في نفوسنا.
وتسيطر تقنية المفارقة الحادة والساخرة في شعر مصطفي رجب وتجلت في السطر الأخير "نامي في هدوء أمتي، إذا ليس يحسن أن تنامي في غضب" فقد قدم الشاعر النوم والهدوء علي أمتى وكأنها خلقت للنوم لا للعمل والنصر. إن القصيدة الرجبية قصيدة ذات خصوصية ما حيث إنها تميل إلي الحس القومي، طارحة القضايا العامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لأن الشاعر يدرك مسئوليته تجاه أمته العربية فهو لا يطنطن في الفراغ.
وينتقل الشاعر مصطفي رجب من الهم السياسي إلي الهم العاطفي الذي لا يخلو من سياسة أيضا فيحاور معشوقته، يلاطفها، يصف عينيها النجلاوين، فيقول في قصيدة بعنوان (استئناف):
عيناك عاصمتا العيون
ومهبط الشعر المشبع بالجنون
عيناك عزف فاصل "........
بين التمرد والسكون
بهما – إذا حل المسا- ألوذ ممن يحسدون!!!
عيناك صادرتا اقتراحات التصالح بين قلبي والظنون
وأعادتاني للسجون"
نلاحظ أن الشاعر قدم وصفاً دقيقاً لعيون حبيبته، فهي مهبط الوحي/ الشعر وهي العزف الفاصل بين التمرد والسكون، فقد جعلها الشاعر ملاذه من الحاسدين فهما مؤشران واضحان جليان لحدوث التصالح بين القلب والظنون، فقد أصبح الشاعر أسيراً لهاتين العينين النجلاوين. من الظواهر اللافتة في القصيدة الرجبية ظاهرة التدفق السردي حيث إن الشاعر يتكئ علي السرد الشعري اتكاءً مبالغاً فيه وكأننا أمام مشهد واقعي بشخوصه وقضاياه. فيقول في قصيدة بعنوان حوار:
- قال لي الصبح ضاحكاً وهو يمرح حين ألفي الفؤاد بالهم يرزح
- هل تري في الوجود أجمل مني قلت يا صبح ليس لي فيك مطمح
- أنت للخلق كلهم مستباح كل من يشتهي جمالك يصدح
- موعد ثابت تهل عليهم حين تأتي فيسألون وتمنح
- وأنا أكره الوفاء بوعد كم تذل الوعود نفساً وتجرح
إن السرد الشعري الذي صدره الشاعر في قصيدته، يجعلنا نتذكر الشاعر العربي القديم / الشعر الجاهلي بصفة عامة، لأن الشعراء الجاهلين انشغلوا بالمشاركة الفاعلة للآخر في ثنايا النص الشعري سواء أدركوا ذلك أو لم يدركوا، ويعد امرؤ القيس واحداً من هؤلاء، فقد كان يستوقف الصاحبين ويبكي ويقيم حواراً معهما، ليسرد الأحداث والوقائع التي ألمت به. وقد أدرك الشاعر مصطفي رجب هذه القيمة الفنية، فراح يصوغ قصيدته علي النهج نفسه ويقيم حوارا مع الصبح والليل فهما اللذان يصغيان إليه ويشاركانه همومه وآلامه، ويقول أيضاً.
- قال لي الليل حين غش وعسعس أيها الساهر الذي ليس ينعس
- هل تري في الوجود أعنف مني تهدأ الخلق في وجودي وتخرس؟
- قلت إن اللصوص أجسر قلبا منك يا ليل- بل همو منك أشرس.
- فيك كل الذنوب تجني علي الأر ض فكم فيك للغوية مؤنس.
يصنع الشاعر مصطفي رجب حواراً خارجياً/ داخلياً مع الصبح تارة ومع الليل تارة أخري هذا الحوار القائم بين الذات الشاعرة القلقة المتمردة على الواقع المعيش ، إنما هي ذات " لا تري في الوجود غير ذاتها إنها تنفي الآخر ، لا تري في الصبح شيئاً ذا قيمة ، فالصبح مستباح للجميع وليس فيه ما يجعل الشاعريفتتن به،ثم نلاحظ الحوار القائم بين الذات الشاعرة والليل ، فالليل يفخر بنفسه أمام الشاعر الساهر الذي لا يريد النوم فهو يفخر بأن الناس فيه تهدأ أو تخرس ، لكن الشاعر يصفه في قوله: ففيك تحدث السرقات وينتشر اللصوص ، وتحدث الذنوب ، فأنت للغواية مكان آمن عن أعين الناس .
ومن الظواهر اللافتة في هذه القصيدة الإيقاع الشعري الذي اتكأ عليه الشاعر مصطفي رجب فهو ابن القصيدة العمودية / التفعيلية لذلك نلاحظ أنه أخلص لإيقاع الخليل بن أحمد الفراهيدي فحافظ على الوزن والقافية ذات الجرس الموسيقي الهاديء، بل نوع فقد جاء المقطع الأول من النص علي قافية الحاء والمقطع الثاني علي قافية السين ، وهذا لا يخلو من دلالة مفادها أن الشاعر حينما أجري حواراً مع الصبح استخدم (الحاء) وعندما حاور الليل استخدم (السين) وكأنه يريد أن يقول لنا: إن القافية جزء أساسي من الحالة النفسية التي تسيطر على إيقاع الشاعر نفسه ، لأن المزاجية الإيقاعية هي التي تدفع الشاعر أن يقول دون أن يدري / يعي ، لأن اللاوعي الإبداعي هو الذي يتحكم في الإيقاع المباشر في النص الشعري .
لا شك أن الشاعر مصطفي رجب صوفي بارع يحترق بنار العشق الأبدي إنه عاشق يرتدي ثوب العامة متخفياً ، ليمتزج بمعشوقه ، إن روح التصوف تتجلي بصورة عظيمة في نصوص الشاعر ، ولهذا فإن معظم قصائده تأتي مفعمة بهذه الروح العابدة المتنسكة الزاهدة في الحياة وفي المناصب وجمع المال ، إنه أخلص للعلم وللحب وللزهد ، ينسج خيوط العشق بينه وبين مريديه من التلاميذ والأحبة والفقراء.
إن القصيدة الرجبية تتمتع بالحس البطولي ، الصوفي ، لأننا نزعم أن الصوفي بطل من أبطال الحياة فنستدعي الحلاج ، السهروردي ، والنفري وابن عربي ابن عطاء الله ، القنائي ، الشلبي ......الخ "
ومن ثم فإن الشاعر مصطفي رجب من المتصوفة المعاصرين الذين زهدوا الحياة فيقول في قصيدة بعنوان مكاشفة :
وحين تجيئين ، يا نفحة الروح
تخضر روحي
ويسخو الضحي بالأريج الشهي
وفي مقلتينا
بريق التروح
إلى صبوة في الحنايا غريقة
تضيق المسافات بين التباريح والبوح .
تتحد الأمنيات بطعم الحقيقة
وترقص على شفتينا وبين يدينا...
إن روح التصوف تتجلي في النص السابق من خلال المؤشر الدلالي الأول وهو العنوان (مكاشفة) يمثل عتبة أساسية من عتبات النص الشعري ، فهل هي مكاشفة الذات لذاتها أم مع الآخر/الحياة/الوجود. توجد مجموعة من الدلالات الثرية والغنية حول هذا العنوان الذي جاء في صيغة النكرة، وكأن الشاعر يريد من المتلقي أن يحلق في الفضاء [ أعني فضاء المفردة] وهل للمفردة مساحة
أو فضاء تتحرك فيه عند مصطفي رجب ، الحق أقول إن القصيدة الرجبية من بدايتها إلي نهايتها قصيدة اعتراف ومكاشفة للواقع القميئ والزيف السياسي والثقافي الذي نحياه ونلمسه كل لحظة . إنه يميل إلى استدعاء الروح بنفحاتها الربانية وبعبقها الجميل وآلامها العذبة ، فعندما ترنو منه هذه النفحة الربانية التي لا يخلو من تنسمها إنسان عاشق ، تزدهر الدنا وتخضر الأرواح الطاهرة التي تنسج الحضور البهي داخل الأنوات العاشقة .فقد تتلاشي المسافات وتغيب الحدود بين التباريح والبوح الصوفي الممتد داخل الذات الشاعرة / المتصوفة ، ثم نلاحظ أيضاً استخدام الشاعر بعض مفردات المتصوفة الكبار مثل ( نفحة ، الروح، روحي ، البوح ، الكأس ، الجنون ، لهفة الشوق ) . إن جل هذه المفردات تصور لنا العشق الصوفي بين العبد وربه ، العاشق ومعشوقته ، فيقول في مقطع آخر :
يريق الغواية كأس وكأس
فنحسو ونحسو
ويبحر فينا الجنون ويرسو
وينس الزفير – اندهاشاً – شهيقه!
وحين تجئين وقت العشية
يرسم ثغرك أحلي تحية ....
أذوب علي صدرك المرمري....
فتيً عنجهيا....
تأصل فيه دم الجاهلية .
فتبتسمين ، وتستغربين
فأصحو
أضمك في لهفة الشوق – لهفي
ونسبح في قبله شاعرية !!!
إن الغواية التي صرح بها الشاعر ليست الغواية المباشرة الخبيثة بل إنها الغواية الطيبة التي ينشدها الشاعر ، فالكأس هي كأس العشق والخمر هو خمر المعرفة والمحبة الإلهية التي وجدها الشاعر وكأنها طريقة إلى الروح المطلة على العالم الآخر ، ونلاحظ المستوي الثاني من النص الشعري عندما يصل الشوق مداه ، يضم محبوبته في لهفة الشوق بين جوانحه؟؟ ويسبحان في قبلة شاعرية.
لاشك أن القصيدة الرجبية احتفت بمجموعة من الظواهر الفنية جعلتها تتميز عن القصائد الأخري ، لأن الشاعر مصطفي رجب من الشعراء المحنكين الذين امتلكوا خبرة الكشف والابتكار الفني والجمالي فقد اشتمل هذا الديوان على مجموعة من القصائد القصيرة ، أو فيما يسمي بالإبيجراما الشعرية ، وهي كل قصيدة قصيرة ، مختتمة بنكتة أو مدح أو ذم أو هجاء أو رثاء ولا تخلو من مفارقة ، فهي كالرمية التي يوجهها الشاعر في صدر المتلقي فتصيب الهدف المنشودعلي حد قول الدكتور طه حسين ، ومن معايير الإبيجراما القصر والصدام الإدراكي ، الاندهاش الذي تحدثه الإبيجراما في القارئ بأنواعه المتعددة وقد جاءت إبيجرامات مصطفي رجب حاملة في طياتها علاقة الذات بالآخر في شتي صوره فيقول في ابيجراماته التي جاءت بعنوان : من ليالي النابغة الذبياني:
أنادي أن تدور الشمس حول الأرض ...
وأرفض أن تدور الأرض ....
لأن الأرض إذا دارت..
أطاعت سلطة الشمس ...
فأين حقوقها في الرفض ؟؟ .
إن الخلفية الحقيقية لهذه الإبيجراما تكمن في المفارقة التي حاول الشاعر ترسيخها في ذهن القارئ العربي وهي أن هناك علاقة ما بين الأرض والشمس فالأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس لكن الشاعر بصوته الساخر يريد أن يقلب الحقائق العلمية وهي أن تدور الشمس حول الأرض ، بل يؤكد انه يرفض أن تدور الأرض ، ويعطي لذلك مبرراً ، هي أن الأرض أن دارت أطاعت سلطة الشمس فأين حقوقها في الرفض ؟
إن السخرية السوداء في هذا الإبيجراما تجعلنا ندرك أن الشاعر يريد أن يحذرنا من التبعية والمداراة والخوف والجبن ويجب أن يكون لكل إنسان رأيه الخاص به سواء اتفقنا أم اختلفنا. إن الذل الذي يشعر به الإنسان العربي ، جسده الشاعر مصطفي رجب في هذه الإبيجراما القصيرة
ويقول في إبيجراما أخري
(2)
كليني لهم .. يا أميمة ناصب
وليل طويل أقاسيه نائي الكواكب..
كليني لهم وغم فإن ابن ماء السماء على الناس غاضب.
(3)
إذا كانت يد تكفي لأكل العيش
فماذا تصنع الآخري سوي التصفيق ؟
اللافت هنا أن الشاعر يستدعي النابغة الذبياني من خلال نصوصه الشعرية ، وقد تجلي ذلك في قوله :
(كليني لهم ياأميمة ناصب)
لكن الشاعر مصطفي رجب يعكس مقولة النابغة وكأن يتكئ على التناص المعكوس ، لأن ليل النابغة بطئ الكواكب لا يريد ان يرحل عنه لكي يدي محبوبته أميمه ، والليل عند الشاعر مصطفي رجب ليل ثاني الكواكب بعيد عن حياتنا الحسية فهو ليل غم وكرب وهم لأن ابن ماء السماء غائب ، فهو الذي يأمر وينهي ويتحكم في العباد ، إن هذه الشخصية التراثية أدت دورها المنوط بها لأن الشاعر استخدمها بوصفها رمزا للدكتاتور الذي يتحكم في خلق الله .
ويتساءل الشاعر في الإبيجراما الأخرى ، ليصنع من هذا التساؤل مفارقة ما وهي أن الشعوب العربية لم تفلح في شئ سوء التصفيق الحاد الذي يغلفه النفاق والرياء
ويقول في الإبيجراما الأخيرة (4) :
لأن المبصرين طغاة
لأن العمي جبارون
أنادي أن يكون المجد للأعور
فخير أمورنا الأوسط !!
(5)
أتاني أبيت اللعن أنك "مكرمي "
(وتلك التي أهتم منها وأنصب)
(فبت كأن العائدات فرشن لي هراسا به يعلي فراش ويقشب)
نلاحظ في الإبيجراماتين السابقتين الروح الخفيفة الضاحكة التي يتميز بها الشاعر مصطفي رجب فقد بعث في نفوسنا الضحك في عن طريق الفكاهة التي صدرها في إبيجرامته السابقة ، فكيف يكون المجد للأعور ونلاحظ من طرف خفي تلك الروح الساحرة في نصوص الشاعر مصطفي رجب ويستدعي الشاعر مصطفي رجب شخصية امرئ القيس في قصيدة بعنوان وقفة علي أطلال :
قفانبك
قفانبك
لأن قعودنا عار
لأن في ذهولنا عار
لأن الصمت ليس يليق بعد إضاعة الملك
قفا يا صاحبي هنا
قفا نبك
ورددها وراء الهالك الضليل آلاف من العرب
إن الشاعر يصور الحال التي آل إليها العرب فبعد الهزائم يقف الأعارب لكي يبكوا علي ما فاتهم فأصبح البكاء طقسا يوميا يبدأ به العرب صباحهم ويقول :
وصارت طقسنا اليومي عند بداية الطرب
وصارت خبزنا والخمر ، وصارت آية الغلب
إذا بيعت كنائسنا
نرددها ،
وإن ديست مساجدنا
وتطلبها مسامعنا
إذا برئت قصائدنا ....
يتكئ الشاعر رجب علي شعرية المشهد ، حيث إنه يقدم صورة / مشاهدا للتمزق العربي والذي أحدثه العرب أنفسهم ، فبيعت الكنائس ، وديست المساجد وهتكت الأعراض واستبيحت الأرض
ويقول :
قفا نبك
وهذي عبلة العربية الحسناء بين السبي والهتك
وهذا عنتر العربي مسترخ بعت
الخمر في بله
يعرب في مرابعنا
ويحكي عن مكارم جده العبسي
يحكي قصة الإفك .
إن هذه القصيدة الشعرية تعد من عيون شعر مصطفي رجب ، لأنها تصور الحال العربي صورة صادقة وكأن الشاعر يبكي علي الأوطان الضائعة والأرض المسلوبة. إن الحس السياسي الساخر (الكوميديا السوداء) التي جسدها الدكتور مصطفي هي ملحمة تاريخية تشاهدها الأجيال بعد ذلك ، لأنه وطني صادق حتى النخاع يسهم بفكرة وبفنه مساهمة قوية في معالجة القضايا العامة السياسية والثقافية والاجتماعية .كان له دور في إحياء الفكاهة المصرية من خلال الديوان الحلمنتيشي الذي طبعه قبل سنوات ماضية ، فهو يعد من رواد هذا الشعر في واقعنا المعاصر بجانب ياسر قطامش وشوقي أبو ناجي وشاعر سبعيني من شعراء قصيدة التفعيلة الذين لم يغيروا أفكارهم ويلهثوا وراء الوافد الأوروبي كما فعل أدعياء الحداثة في عالمنا العربي ، بل توحد مع ذاته وعشق قريته شطورة ، فأنس بها وأنست به وفخرت به فخرا ذاع في حدود مصر المحروسة من شرقها إلي غربها ومن جنوبها إلي شمالها ؛ والحق أقول .إن الشاعر مصطفي رجب يعد واحدا من القلائل المخلصين من الشعراء الذين تمسكوا بتراثهم الحي وجددوا في روح القصيدة العربية الحديثة ، فهذا الديوان (صمت) يعد إضافة واعية وحقيقية في الشعرية العربية فهنيئا له وهنيئا لنا .
دكتور / أحمد الصغير المراغى
الكاتب د. أحمد الصغير
الأحد, 08 فبراير 2009 01:12
د. أحمد الصغير
إن المتتبع لأعمال الشاعر الدكتور مصطفي رجب الشعرية، يدرك تمام الإدراك أنه أخلص- وما يزال ـ لروح للقصيدة العربية الحديثة التي أرسي دعائمها محمود سامي البارودي، وحاول أن يبعثها من جديد، من خلال المعارضات والمحاكاة التي قام بها البارودي في القرن التاسع عشر، ومن ثم فإن شاعرنا الفذ حاول أن يسير علي النهج نفسه، مواكباً التطورات التي حدثت في العالم العربي من تجديد وتحديث للقصيدة العربية وانتقالها من الكلاسية إلي التفعيلية علي يد صلاح عبد الصبور ونازك الملائكة والسياب وأحمد عبد المعطي حجازي، ومن ثم فإن الشاعر الدكتور مصطفي رجب هو ابن القصيدة التفعيلية التي قدم فيها أكثر من خمسة دواوين شعرية (الصيد في الماء الرائق، والشروحات، اعتراف جديد لابن أبي ربيعه، وعنترة يغير أقواله، الديوان الحلمنتيشي) ويأتي هذا الديوان (صمت) ليؤكد علي قوة هذه الشعرية التي يتميز بها الشاعر مصطفي رجب، فقد جاءت لغة الديوان معبرة عن الحالة الشعورية التي يعيشها الإنسان العربي من المحيط إلي الخليج، فاللغة الشعرية لا تنفصل عن الذات الشاعرة، فهي مجموعة من المفردات/ الدوال التي تسهم في عملية بناء النص الشعري إسهاماً عظيما، ويمكن أن نلاحظ ذلك في قصيدة بعنوان(أبجدية أخرى) يقول الشاعر مصطفي رجب:
الفاء: فرقعة الخطب
واللام: لام الأمر للساقي الأغر
"فاليوم خمر"
وغدا له رب يدبره
والسين : حرف شلل
السين تدخل فعلنا العربي تنحره
وفي جب الغد المجهول تلقيه بغير أمل
من الملاحظ في المقطع السابق أن الشاعر يتكئ علي الحس السياسي الساخر الذي لا نسمع منه إلا فرقعة الخطب الجوفاء، ويشي المقطع أيضاً بالمفارقة الأليمة التي خلقها الشاعر من خلال استخدامه للحروف (الفاء، اللام، السين، والطاء....الخ) فهي بمثابة الرموز التي حاول الشاعر أن يخرجها من دلالتها المباشرة إلي دلالاتها العميقة علي حد قول اللغوي (جاكسون)، إنه يتحدث عن اللغة باللغة وكأننا أمام نص لغوي يحاول أن يستنطق حروف اللغة حرفا حرفا، فقد يميل هذا النوع إلي ما عرف (بالميتالغة) عند (تشومسكي).
إن الحس الساخر لدي مصطفي رجب مفعم بالحزن الذي يجعلنا من شدة أثره نلج في عوالم أخرى غير عالمنا المباشر. يستمر الشاعر الدكتور مصطفي رجب في استنطاق الحروف بوصفها رموزاً لأشياء حية في الواقع فيقول:
والطاء: طين القادسية، طين خيبر،
حولته يد السلاطين/ التتار إلي حبب
والياء: "يشرب غيرنا كدراً" ونشرب إن وردنا الماء"
هل مازال ماء؟
والنون: نحن إذا الجبابر عندنا خرت
لأصغرنا
ونحن إذا المدائح عندنا كيلت لأشطرنا
ونحن إذا ابن هند سامنا خسفاً
وقبلنا يديه.
يستدعي الدكتور مصطفي رجب في المقطع السابق معركة القادسية، وخيبر وهذا الاستدعاء لا يخلو من دلالة فنية مفادها أن العرب كانت لديهم مفاخر وانتصارات، هذه الانتصارات حولتها يد السلاطين إلي هزائم من جراء الخنوع والخوف والتجرد من النخوة، والرجولة الحقيقية.
ومن اللافت للنظر أن الشاعر مصطفي رجب اتكأ علي تقنية التناص الشعري، فقد تناص مع قول عمر بن كلثوم:
ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطينا
وتكمن المفارقة في هذا النص السابق من خلال التناص الذي حاول الشاعر أن يصوغه داخل نسيج النص الشعري، فانشغل بتقديم المشهد القديم الفخر/ والمشهد الحديث الهزيمة فيتساءل هل مازال ماء؟ إن السؤال الحارق الذي أنهي به الشاعر مقطوعته الشعرية يشي بالمرارة الدفينة والوجع الأليم الذي أصاب الذات العربية في مقتل. وتتجلي تقنية التناص الشعرية أيضا في قوله:
والسين "سافر إن تجد عوضا" فأرضك
"جحر ضب"
والطاء طبل طرب!!
والياء حرف ندا
لمن احتسي وشدا!
اليوم يا قوماه خمر
وغداً – إذا ما جاء – خمر!!
والنون نامي في هدوء أمتي إذ ليس يحسن
أن تنامي في غضب"
تنتنوع مناطق التناص الشعري في المقطع السابق، حيث إن الشاعر يتناص مع قول الإمام الشافعي:
"سافر تجد عوضا عمن تفارقهم: والنصب فإن لذيذ العيش في النصب"
يميل الشاعرمصطفي رجب إلي استرفاد القديم ومحاولته واستنهاضه حتى تحس القلوب التي ملأها الصدأ واستعمرتها الملذات، ثم يعود ليستنطق حرف الطاء، وكأن المجتمع العربي طبال "ورقاص وهماز ومشاء بنميم" ويعود ليفجعنا بقوله: اليوم يا قوماه خمر وغداً – إذا ما جاء – خمر!!
نلاحظ في هذه العبارة صوت امرئ القيس عندما قال اليوم خمر وغداً أمر وكأن امرأ القيس بضلالته ومجونه أصبح كامناً ومعربداً في نفوسنا.
وتسيطر تقنية المفارقة الحادة والساخرة في شعر مصطفي رجب وتجلت في السطر الأخير "نامي في هدوء أمتي، إذا ليس يحسن أن تنامي في غضب" فقد قدم الشاعر النوم والهدوء علي أمتى وكأنها خلقت للنوم لا للعمل والنصر. إن القصيدة الرجبية قصيدة ذات خصوصية ما حيث إنها تميل إلي الحس القومي، طارحة القضايا العامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لأن الشاعر يدرك مسئوليته تجاه أمته العربية فهو لا يطنطن في الفراغ.
وينتقل الشاعر مصطفي رجب من الهم السياسي إلي الهم العاطفي الذي لا يخلو من سياسة أيضا فيحاور معشوقته، يلاطفها، يصف عينيها النجلاوين، فيقول في قصيدة بعنوان (استئناف):
عيناك عاصمتا العيون
ومهبط الشعر المشبع بالجنون
عيناك عزف فاصل "........
بين التمرد والسكون
بهما – إذا حل المسا- ألوذ ممن يحسدون!!!
عيناك صادرتا اقتراحات التصالح بين قلبي والظنون
وأعادتاني للسجون"
نلاحظ أن الشاعر قدم وصفاً دقيقاً لعيون حبيبته، فهي مهبط الوحي/ الشعر وهي العزف الفاصل بين التمرد والسكون، فقد جعلها الشاعر ملاذه من الحاسدين فهما مؤشران واضحان جليان لحدوث التصالح بين القلب والظنون، فقد أصبح الشاعر أسيراً لهاتين العينين النجلاوين. من الظواهر اللافتة في القصيدة الرجبية ظاهرة التدفق السردي حيث إن الشاعر يتكئ علي السرد الشعري اتكاءً مبالغاً فيه وكأننا أمام مشهد واقعي بشخوصه وقضاياه. فيقول في قصيدة بعنوان حوار:
- قال لي الصبح ضاحكاً وهو يمرح حين ألفي الفؤاد بالهم يرزح
- هل تري في الوجود أجمل مني قلت يا صبح ليس لي فيك مطمح
- أنت للخلق كلهم مستباح كل من يشتهي جمالك يصدح
- موعد ثابت تهل عليهم حين تأتي فيسألون وتمنح
- وأنا أكره الوفاء بوعد كم تذل الوعود نفساً وتجرح
إن السرد الشعري الذي صدره الشاعر في قصيدته، يجعلنا نتذكر الشاعر العربي القديم / الشعر الجاهلي بصفة عامة، لأن الشعراء الجاهلين انشغلوا بالمشاركة الفاعلة للآخر في ثنايا النص الشعري سواء أدركوا ذلك أو لم يدركوا، ويعد امرؤ القيس واحداً من هؤلاء، فقد كان يستوقف الصاحبين ويبكي ويقيم حواراً معهما، ليسرد الأحداث والوقائع التي ألمت به. وقد أدرك الشاعر مصطفي رجب هذه القيمة الفنية، فراح يصوغ قصيدته علي النهج نفسه ويقيم حوارا مع الصبح والليل فهما اللذان يصغيان إليه ويشاركانه همومه وآلامه، ويقول أيضاً.
- قال لي الليل حين غش وعسعس أيها الساهر الذي ليس ينعس
- هل تري في الوجود أعنف مني تهدأ الخلق في وجودي وتخرس؟
- قلت إن اللصوص أجسر قلبا منك يا ليل- بل همو منك أشرس.
- فيك كل الذنوب تجني علي الأر ض فكم فيك للغوية مؤنس.
يصنع الشاعر مصطفي رجب حواراً خارجياً/ داخلياً مع الصبح تارة ومع الليل تارة أخري هذا الحوار القائم بين الذات الشاعرة القلقة المتمردة على الواقع المعيش ، إنما هي ذات " لا تري في الوجود غير ذاتها إنها تنفي الآخر ، لا تري في الصبح شيئاً ذا قيمة ، فالصبح مستباح للجميع وليس فيه ما يجعل الشاعريفتتن به،ثم نلاحظ الحوار القائم بين الذات الشاعرة والليل ، فالليل يفخر بنفسه أمام الشاعر الساهر الذي لا يريد النوم فهو يفخر بأن الناس فيه تهدأ أو تخرس ، لكن الشاعر يصفه في قوله: ففيك تحدث السرقات وينتشر اللصوص ، وتحدث الذنوب ، فأنت للغواية مكان آمن عن أعين الناس .
ومن الظواهر اللافتة في هذه القصيدة الإيقاع الشعري الذي اتكأ عليه الشاعر مصطفي رجب فهو ابن القصيدة العمودية / التفعيلية لذلك نلاحظ أنه أخلص لإيقاع الخليل بن أحمد الفراهيدي فحافظ على الوزن والقافية ذات الجرس الموسيقي الهاديء، بل نوع فقد جاء المقطع الأول من النص علي قافية الحاء والمقطع الثاني علي قافية السين ، وهذا لا يخلو من دلالة مفادها أن الشاعر حينما أجري حواراً مع الصبح استخدم (الحاء) وعندما حاور الليل استخدم (السين) وكأنه يريد أن يقول لنا: إن القافية جزء أساسي من الحالة النفسية التي تسيطر على إيقاع الشاعر نفسه ، لأن المزاجية الإيقاعية هي التي تدفع الشاعر أن يقول دون أن يدري / يعي ، لأن اللاوعي الإبداعي هو الذي يتحكم في الإيقاع المباشر في النص الشعري .
لا شك أن الشاعر مصطفي رجب صوفي بارع يحترق بنار العشق الأبدي إنه عاشق يرتدي ثوب العامة متخفياً ، ليمتزج بمعشوقه ، إن روح التصوف تتجلي بصورة عظيمة في نصوص الشاعر ، ولهذا فإن معظم قصائده تأتي مفعمة بهذه الروح العابدة المتنسكة الزاهدة في الحياة وفي المناصب وجمع المال ، إنه أخلص للعلم وللحب وللزهد ، ينسج خيوط العشق بينه وبين مريديه من التلاميذ والأحبة والفقراء.
إن القصيدة الرجبية تتمتع بالحس البطولي ، الصوفي ، لأننا نزعم أن الصوفي بطل من أبطال الحياة فنستدعي الحلاج ، السهروردي ، والنفري وابن عربي ابن عطاء الله ، القنائي ، الشلبي ......الخ "
ومن ثم فإن الشاعر مصطفي رجب من المتصوفة المعاصرين الذين زهدوا الحياة فيقول في قصيدة بعنوان مكاشفة :
وحين تجيئين ، يا نفحة الروح
تخضر روحي
ويسخو الضحي بالأريج الشهي
وفي مقلتينا
بريق التروح
إلى صبوة في الحنايا غريقة
تضيق المسافات بين التباريح والبوح .
تتحد الأمنيات بطعم الحقيقة
وترقص على شفتينا وبين يدينا...
إن روح التصوف تتجلي في النص السابق من خلال المؤشر الدلالي الأول وهو العنوان (مكاشفة) يمثل عتبة أساسية من عتبات النص الشعري ، فهل هي مكاشفة الذات لذاتها أم مع الآخر/الحياة/الوجود. توجد مجموعة من الدلالات الثرية والغنية حول هذا العنوان الذي جاء في صيغة النكرة، وكأن الشاعر يريد من المتلقي أن يحلق في الفضاء [ أعني فضاء المفردة] وهل للمفردة مساحة
أو فضاء تتحرك فيه عند مصطفي رجب ، الحق أقول إن القصيدة الرجبية من بدايتها إلي نهايتها قصيدة اعتراف ومكاشفة للواقع القميئ والزيف السياسي والثقافي الذي نحياه ونلمسه كل لحظة . إنه يميل إلى استدعاء الروح بنفحاتها الربانية وبعبقها الجميل وآلامها العذبة ، فعندما ترنو منه هذه النفحة الربانية التي لا يخلو من تنسمها إنسان عاشق ، تزدهر الدنا وتخضر الأرواح الطاهرة التي تنسج الحضور البهي داخل الأنوات العاشقة .فقد تتلاشي المسافات وتغيب الحدود بين التباريح والبوح الصوفي الممتد داخل الذات الشاعرة / المتصوفة ، ثم نلاحظ أيضاً استخدام الشاعر بعض مفردات المتصوفة الكبار مثل ( نفحة ، الروح، روحي ، البوح ، الكأس ، الجنون ، لهفة الشوق ) . إن جل هذه المفردات تصور لنا العشق الصوفي بين العبد وربه ، العاشق ومعشوقته ، فيقول في مقطع آخر :
يريق الغواية كأس وكأس
فنحسو ونحسو
ويبحر فينا الجنون ويرسو
وينس الزفير – اندهاشاً – شهيقه!
وحين تجئين وقت العشية
يرسم ثغرك أحلي تحية ....
أذوب علي صدرك المرمري....
فتيً عنجهيا....
تأصل فيه دم الجاهلية .
فتبتسمين ، وتستغربين
فأصحو
أضمك في لهفة الشوق – لهفي
ونسبح في قبله شاعرية !!!
إن الغواية التي صرح بها الشاعر ليست الغواية المباشرة الخبيثة بل إنها الغواية الطيبة التي ينشدها الشاعر ، فالكأس هي كأس العشق والخمر هو خمر المعرفة والمحبة الإلهية التي وجدها الشاعر وكأنها طريقة إلى الروح المطلة على العالم الآخر ، ونلاحظ المستوي الثاني من النص الشعري عندما يصل الشوق مداه ، يضم محبوبته في لهفة الشوق بين جوانحه؟؟ ويسبحان في قبلة شاعرية.
لاشك أن القصيدة الرجبية احتفت بمجموعة من الظواهر الفنية جعلتها تتميز عن القصائد الأخري ، لأن الشاعر مصطفي رجب من الشعراء المحنكين الذين امتلكوا خبرة الكشف والابتكار الفني والجمالي فقد اشتمل هذا الديوان على مجموعة من القصائد القصيرة ، أو فيما يسمي بالإبيجراما الشعرية ، وهي كل قصيدة قصيرة ، مختتمة بنكتة أو مدح أو ذم أو هجاء أو رثاء ولا تخلو من مفارقة ، فهي كالرمية التي يوجهها الشاعر في صدر المتلقي فتصيب الهدف المنشودعلي حد قول الدكتور طه حسين ، ومن معايير الإبيجراما القصر والصدام الإدراكي ، الاندهاش الذي تحدثه الإبيجراما في القارئ بأنواعه المتعددة وقد جاءت إبيجرامات مصطفي رجب حاملة في طياتها علاقة الذات بالآخر في شتي صوره فيقول في ابيجراماته التي جاءت بعنوان : من ليالي النابغة الذبياني:
أنادي أن تدور الشمس حول الأرض ...
وأرفض أن تدور الأرض ....
لأن الأرض إذا دارت..
أطاعت سلطة الشمس ...
فأين حقوقها في الرفض ؟؟ .
إن الخلفية الحقيقية لهذه الإبيجراما تكمن في المفارقة التي حاول الشاعر ترسيخها في ذهن القارئ العربي وهي أن هناك علاقة ما بين الأرض والشمس فالأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس لكن الشاعر بصوته الساخر يريد أن يقلب الحقائق العلمية وهي أن تدور الشمس حول الأرض ، بل يؤكد انه يرفض أن تدور الأرض ، ويعطي لذلك مبرراً ، هي أن الأرض أن دارت أطاعت سلطة الشمس فأين حقوقها في الرفض ؟
إن السخرية السوداء في هذا الإبيجراما تجعلنا ندرك أن الشاعر يريد أن يحذرنا من التبعية والمداراة والخوف والجبن ويجب أن يكون لكل إنسان رأيه الخاص به سواء اتفقنا أم اختلفنا. إن الذل الذي يشعر به الإنسان العربي ، جسده الشاعر مصطفي رجب في هذه الإبيجراما القصيرة
ويقول في إبيجراما أخري
(2)
كليني لهم .. يا أميمة ناصب
وليل طويل أقاسيه نائي الكواكب..
كليني لهم وغم فإن ابن ماء السماء على الناس غاضب.
(3)
إذا كانت يد تكفي لأكل العيش
فماذا تصنع الآخري سوي التصفيق ؟
اللافت هنا أن الشاعر يستدعي النابغة الذبياني من خلال نصوصه الشعرية ، وقد تجلي ذلك في قوله :
(كليني لهم ياأميمة ناصب)
لكن الشاعر مصطفي رجب يعكس مقولة النابغة وكأن يتكئ على التناص المعكوس ، لأن ليل النابغة بطئ الكواكب لا يريد ان يرحل عنه لكي يدي محبوبته أميمه ، والليل عند الشاعر مصطفي رجب ليل ثاني الكواكب بعيد عن حياتنا الحسية فهو ليل غم وكرب وهم لأن ابن ماء السماء غائب ، فهو الذي يأمر وينهي ويتحكم في العباد ، إن هذه الشخصية التراثية أدت دورها المنوط بها لأن الشاعر استخدمها بوصفها رمزا للدكتاتور الذي يتحكم في خلق الله .
ويتساءل الشاعر في الإبيجراما الأخرى ، ليصنع من هذا التساؤل مفارقة ما وهي أن الشعوب العربية لم تفلح في شئ سوء التصفيق الحاد الذي يغلفه النفاق والرياء
ويقول في الإبيجراما الأخيرة (4) :
لأن المبصرين طغاة
لأن العمي جبارون
أنادي أن يكون المجد للأعور
فخير أمورنا الأوسط !!
(5)
أتاني أبيت اللعن أنك "مكرمي "
(وتلك التي أهتم منها وأنصب)
(فبت كأن العائدات فرشن لي هراسا به يعلي فراش ويقشب)
نلاحظ في الإبيجراماتين السابقتين الروح الخفيفة الضاحكة التي يتميز بها الشاعر مصطفي رجب فقد بعث في نفوسنا الضحك في عن طريق الفكاهة التي صدرها في إبيجرامته السابقة ، فكيف يكون المجد للأعور ونلاحظ من طرف خفي تلك الروح الساحرة في نصوص الشاعر مصطفي رجب ويستدعي الشاعر مصطفي رجب شخصية امرئ القيس في قصيدة بعنوان وقفة علي أطلال :
قفانبك
قفانبك
لأن قعودنا عار
لأن في ذهولنا عار
لأن الصمت ليس يليق بعد إضاعة الملك
قفا يا صاحبي هنا
قفا نبك
ورددها وراء الهالك الضليل آلاف من العرب
إن الشاعر يصور الحال التي آل إليها العرب فبعد الهزائم يقف الأعارب لكي يبكوا علي ما فاتهم فأصبح البكاء طقسا يوميا يبدأ به العرب صباحهم ويقول :
وصارت طقسنا اليومي عند بداية الطرب
وصارت خبزنا والخمر ، وصارت آية الغلب
إذا بيعت كنائسنا
نرددها ،
وإن ديست مساجدنا
وتطلبها مسامعنا
إذا برئت قصائدنا ....
يتكئ الشاعر رجب علي شعرية المشهد ، حيث إنه يقدم صورة / مشاهدا للتمزق العربي والذي أحدثه العرب أنفسهم ، فبيعت الكنائس ، وديست المساجد وهتكت الأعراض واستبيحت الأرض
ويقول :
قفا نبك
وهذي عبلة العربية الحسناء بين السبي والهتك
وهذا عنتر العربي مسترخ بعت
الخمر في بله
يعرب في مرابعنا
ويحكي عن مكارم جده العبسي
يحكي قصة الإفك .
إن هذه القصيدة الشعرية تعد من عيون شعر مصطفي رجب ، لأنها تصور الحال العربي صورة صادقة وكأن الشاعر يبكي علي الأوطان الضائعة والأرض المسلوبة. إن الحس السياسي الساخر (الكوميديا السوداء) التي جسدها الدكتور مصطفي هي ملحمة تاريخية تشاهدها الأجيال بعد ذلك ، لأنه وطني صادق حتى النخاع يسهم بفكرة وبفنه مساهمة قوية في معالجة القضايا العامة السياسية والثقافية والاجتماعية .كان له دور في إحياء الفكاهة المصرية من خلال الديوان الحلمنتيشي الذي طبعه قبل سنوات ماضية ، فهو يعد من رواد هذا الشعر في واقعنا المعاصر بجانب ياسر قطامش وشوقي أبو ناجي وشاعر سبعيني من شعراء قصيدة التفعيلة الذين لم يغيروا أفكارهم ويلهثوا وراء الوافد الأوروبي كما فعل أدعياء الحداثة في عالمنا العربي ، بل توحد مع ذاته وعشق قريته شطورة ، فأنس بها وأنست به وفخرت به فخرا ذاع في حدود مصر المحروسة من شرقها إلي غربها ومن جنوبها إلي شمالها ؛ والحق أقول .إن الشاعر مصطفي رجب يعد واحدا من القلائل المخلصين من الشعراء الذين تمسكوا بتراثهم الحي وجددوا في روح القصيدة العربية الحديثة ، فهذا الديوان (صمت) يعد إضافة واعية وحقيقية في الشعرية العربية فهنيئا له وهنيئا لنا .
دكتور / أحمد الصغير المراغى