قراءة في كتاب الصدق والواقعية في القصة القرآنية
مؤلف الكتاب أمين محمد عطية باشا وهو يدور حول تأصيل قواعد القصة القرآنية في النصف ألأول وفى النصف الثانى نقد لكتاب محمد أحمد خلف الله الفن القصصى في القرآن وفى مقدمته تكلم عطيه عن أهمية القصة في القرآن فقال :
"وبعد
...- فإن القصة القرآنية ركيزة قوية من ركائز الدعوة الإسلامية القائمة علي الإقناع العقلي والاطمئنان القلبي بما تدعو إليه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
ولهذا فقد عني القرآن الكريم بذكر القصص عناية فائقة وأولاه اهتماما خاصا وذلك لأغراض وأهداف سامية
- ولما كانت القصة القرآنية احدي الأساليب التى اهتم بصوغها القرآن الكريم فقد حاول المستشرقون وأعداء الإسلام أن يشككوا في صدق القصص القرآني وأنه مخالف للتاريخ وأوردوا شبهات واعتراضات لا أساس لها ولا دليل عليها"
وقد استهل الحديث ببيان معنى القصة في القرىن وقد أفلح في ذلك فقال :
"المبحث الأول معني القصة في اللغة والقرآن الكريم
معني القصة في اللغة:
أصل القصة في اللغة المتابعة وذلك أن القاص يتبع الخبر بعضه بعضا قال تعالي " (وقالت لأخته قصيه) أي تتبعي أثره وقال تعالي " (فارتدا على آثارهما قصصا) أي رجعا من الطريق الذي سلكاه يقصان الأثر
والقص البيان قال تعالي " (نحن نقص عليك أحسن القصص) أي نبين لك أحسن البيان ومنه قوله تعالي:" (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) وقوله تعالي " (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك)
...والقصص بالفتح بمعني الخبر المقصوص وضع موضع المصدر حتي صار أغلب عليه
ومما تقدم يتبين لنا أن القصص معناه المتابعة كما أكد هذا المعني القرآن الكريم كما أن هذه المتابعة لا تكون إلا عن طريق البيان وسرد الأحداث بصدق وروايتها علي وجهها ويؤيد ذلك أن القصص بمعني القطع فأنت حينما تقص الحديث تقطع بصحته دون زيادة أو نقصان كما أنه يمكن أن نستدل بهذا المعني اللغوي علي أن القصة لا تكون قصة في أصل وضعها إلا إذا قطع بصحتها فليس فيها مجال للكذب والخيال
وبهذا تري أن القصة في أصل اللغة العربية حقيقة واقعة لأن القاص تتبع الأثر وأتي به مستوعبا كل وجوه الصحة والصدق فيه"
معني القصة في القرآن الكريم:
وعلي هذا المعني اللغوي جاء معني القصة في القرآن الكريم قال تعالي " (إن هذا لهو القصص الحق) أي الخبر الصادق وقال تعالي (نحن نقص عليك نبأهم بالحق) (نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق) فالقصص القرآني في اصطلاح العلماء بالقرآن الكريم هو:
"إخبار الله عما حدث للأمم السابقة مع رسلهم وما حدث بينهم وبين بعضهم أو بينهم وبين غيرهم أفرادا وجماعات من كائنات بشرية أو غير بشرية بحق وصدق للهداية والعظة والعبرة" وذلك كقصص آدم ونوح وإبراهيم وموسي وعيسي وداود وسليمان ولقمان وذي القرنين إلي غير ذلك من القصص المذكور في القرآن الكريم"
وإلى هنا والكلام صحيح عدا أن لفظ القص لا يعنى في كل القرآن معنى واحد فقوله تعالى :
" إن هذا لهو القصص الحق" لا يعنى الحكايات وإنما يعنى أن حكم المباهلة هو الحكم العادل في الخلاف
وكذلك قوله:
"إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين"
فالقص هنا بمعنى القول والمراد يوحى العدل وهو حكمه
وقد اعتبر عطيه أن القصص تطلق فقط على حكايات السابقين وأما ما حدث لمحمد(ص) وأصحابه فهو ليس من القصص فقال:
"أما حكاية القرآن عما حدث لسيدنا محمد (ص)مع قومه فلا يعد من قصص القرآن وذلك كغزواته وزواجه وما حدث بينه عليه الصلاة والسلام وبين أصحابه يؤيد ذلك ويدل عليه قوله تعالي:
(كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق)
وبهذا تري أن القرآن الكريم أطلق لفظ القصص علي ما حدث به من أخبار الأمم السابقة والقرون الأولي في مجالات الرسالات السماوية وما كان يقع في محيطها من صراع بين الخير والشر والحق والباطل"
وهذا استدلال باطل لأن المقصوص في ذلك الموضع هو أخبار السابقين وأما القصص فمعناها ينطبق على أى أحداث وقعت بالفعل وسجلت كما هى بدليل أن موسى سمى ما حدث له مع فرعون وقومه قصص كما قال تعالى :
"فلما جاءه وقص عليه القصص "
ومن ثم فالقصص لا تطلق على حكايات الماضين وغنما تطلق على كل الحكايات الصادقة سواء وقعت لموتى أو أحياء
وتحدث عن أن معنى القصة عند الأدباء يختلف عن معناها في القرآن فالقضة عند الأدباء تطلق على الحكايات الصادقة وهى الواقعية والكاذبة وهى المتخيلة والمختلط فيها هذا بذلك وفى هذا قال :
فالقصة في استعمالات العرب وفي مفهوم القرآن الكريم تختلف عن "القصة بالمعني الأدبي الحديث وتلك حقيقة لا يماري فيها إلا مكابر "وإذا كان الأدباء اليوم ينتزعون من الخيال أقوالا ويقولون أنها قصة فذلك أمر لا يعرفه العرب ولا يجري علي ألسنتهم وصح لنا أن نطلق عليها أساطير مادامت لم تقع"
ذلك أن القصة الأدبية في القديم وفي الحديث لم تقف عند الحقيقة التاريخية وحدها بل كانت تعتمد علي كثير أو قليل من عنصر الخيال الذي من شأنه أن يلون الأحداث بألوان غير ألوانها وأن يبدل ويغير في صورها وأشكالها وذلك لكي تبدو الأحداث مختلفة في وجوهها عما ألف الناس أن يروها عليه"
وتحدث عن الفرق بين القصة والأسطورة فقال :
"ولعل من الضروري أن أفرق بين القصة بهذا المعني - أعني في القرآن الكريم - وبين الأسطورة
"فالأساطير الأباطيل والأكاذيب والأحاديث لا نظام لها جمع إسطار وإسطير بكسرهما .."
وبهذا تري أن الأسطورة لا تطلق إلا علي الأكذوبة من الكلام وعلي القول الذي لا يعقل كتأليف الأباطيل والخرافات
أما القصة القرآنية فقد بنيت بناء محكما من لبنات الحقيقة المطلقة التى لا يطوف بحماها طائف من خيال ولا يطرقها طارق منه "
والأساطير في القرآن لا تعنى حكايات السابقين وإنما تعنى معتقدات أى الأحكام التى اخترعها الكفار سواء كانت في قالب حكايات وهو قليل أو في قالب قول معتقد ما فمثلا يطلقون على البعث اسطورة كما قال تعالى:
"بل قالوا مثل ما قال الأولون قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين"
وحدثنا في المبحث التالى عن عناية القرآن بالقصص فقال :
"المبحث الثاني عناية القرآن الكريم بالقصص
القصة كانت - ولا تزال - مدخلا طبيعيا يدخل منه أصحاب الرسالات والدعوات والهداة والقادة إلي الناس وإلي عقولهم وقلوبهم ولعل عصرنا هذا هو خير شاهد علي ما للقصة من سلطان في الحياة ...وإذا كان البشر يعنون بهذا النوع من الأدب مع قصورهم في كشف سمات الواقع الإنساني أفلا يعني القرآن الكريم -وهو كتاب الإنسانية الأكبر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - بالقصص؟ فيقص علينا حال الأمم السابقة والمجتمعات البائدة التى تتكرر أحداثها مع الزمن ويصف عللها وأمراضها ويعالجها بما يكفل لها الاستقرار والفلاح في الدنيا والأخرة"
وهذا القول بالمقارنة بين الله والناس قول خاطىء فقول الله للقصص مخالف لقول البشر ولا تصح المقارنة بين الوحى وغيره
وقد حاول عطيه أن يجيب عن سبب عناية القرآن بالقصص فقال :
وفي هذا المبحث سأحاول الإجابة علي سؤال يتردد علي الذهن هو:
لماذا عني القرآن الكريم بذكر القصص؟ فأقول:
- عني القرآن الكريم بذكر القصص لأغراض أهمها ما يأتي:
1 - الدعوة إلي التوحيد فلم يرسل الله رسولا قط إلا بدعوة قومه إلي توحيد الله عز وجل ونبذ عبادة ما سواه قال تعالي (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون)
وكذلك الدعوة إلي أصول الديانات من البعث والإيمان بالكتب والرسل والأخلاق العامة التي لا تصلح المجتمعات بدونها
2 - بيان أن دعوة الرسل جميعا واحدة وأن الدين الذي جاء به الجميع واحد من عهد نوح إلي عهد محمد (ص)وأن المؤمنين كلهم أمة واحدة والله الواحد رب الجميع فلا عذر لمن يتخلف عن الإجابة ويتبع هواه وفي ذلك يقول الله تعالي (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب)
ويقول تعالي في قصة نوح(ص) (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره )
وفي شأن صالح (ص)يقول تعالي (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب)
وهود (ص)يقول الله عنه (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)
وقال تعالي في شأن شعيب (ص)(وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)
3 - إثبات الوحي والدلالة علي صحة رسالة سيدنا محمد (ص)فإن هذا القصص إخبار بالغيب بالنسبة له (ص)لأنه أمي لم يقرأ هذا القصص من كتب السابقين ولم يثبت أنه تعلم أو تلقي شيئا من ذلك من أحبار اليهود والنصاري فورود القصص في القرآن الكريم بهذه الدقة والإحكام وبلوغ الغاية في الفصاحة والبيان دليل علي أنه وحي يوحي وأن الرسول (ص)لم يأت به من تلقاء نفسه وقد نص القرآن الكريم علي هذا في مقدمات بعض القصص أو في التعقيب عليها في نهايتها قال تعالي (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) وقال تعالي في قصة مريم (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون)
واقرأ في هذا ما جاء تعقيبا علي قصة موسي (ص)في سورة القصص يقول الله تعالي (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين) (ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون)
إن في أخبار الرسول (ص)بهذه الغيوب الماضية وهو لم يكن حاضرا ولا مشاهدا ولا مقيما بينهم مع انتفاء تعلمه ذلك من بشر دليل علي نبوته وإثبات لرسالته (ص)
4 - التأسي بأولي العزم من الرسل فيما لا قوه في سبيل الله والدعوة إليه من الأذى والاضطهاد وهم مع ذلك ثابتون علي مبدئهم القيم ودينهم الحق ..فنوح (ص)سخروا منه وقالوا له (قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين) وهود (ص)قالوا له (قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين) واستهزأوا بشعيب (ص)وقالوا له (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز)
وعيسى (ص)أرادوا أن يقتلوه قال تعالي (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم)
5 - تسلية النبي (ص)وتثبيت فؤاده وتقوية عزيمته رغم ما يلاقي من أذي واضطهاد فما يقال له إلا ما قد قيل للرسل من قبله وإن يكذبوه فقد كذبت رسل من قبله فصبروا علي ما كذبوا قال تعالي (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) وقال تعالي (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين)
وفي هذا أيضا تثبيت - كذلك - للمؤمنين وغرس الثقة في نفوسهم وتسليتهم عما أصابهم بما آلت إليه حال المؤمنين السابقين وحال الكافرين
6 - إعلام النبي (ص)وإعلام المسلمين بأحوال الأنبياء والأمم السابقين لتكون لديهم الحجة لمعارضة أهل الكتاب في تحديهم وتعنتهم كما قال تعالي (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) ..
7 - في القصة القرآنية دلالة علي قدرة الخالق من حيث الإعطاء والمنع والإنجاء والإهلاك وخلق خوارق العادات كخلق أدم وقصة مولد عيسي (ص)وقصة إبراهيم والطير وعصا موسي ويده التى يدخلها في جيبه ثم يخرجها فإذا هي بيضاء للناظرين من غير مرض وإبراء عيسي للأكمه والأبرص وإحياؤه الموتي بإذن الله وإخراجه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وكذلك ناقة صالح التى جعلها الله له آية وإماتة الله رجلا مائة عام ثم بعثه إلي غير ذلك من الخوارق التى تدل علي قدرة قادرة وتدبير إلهي حكيم
8 - العظة والعبرة لكل من الفريقين - المؤمنين والكافرين ..قال تعالي (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)
9 - بيان عاقبة التقوي والصلاح وعاقبة الشر والفساد كقصة ابني أدم وقصة صاحب الجنتين وقصص بني إسرائيل بعد عصيانهم وقصة سد مأرب وقصة أصحاب الأخدود إلي غير ذلك من القصص
10 - بيان نعمة الله علي أنبيائه وأصفيائه كقصص سليمان وداود وأيوب وإبراهيم ومريم وعيسي وزكريا ويونس وموسي فكانت ترد حلقات من قصص هؤلاء الأنبياء تبرز فيها النعمة في مواقف شتي ويكون إبرازها هو الغرض الأول وما سواه يأتي في هذا الموضوع عرضا
11 - إثبات عقيدة البعث والجزاء ورفع الشك عنها ويبدو ذلك واضحا جليا في قصة الذي مر علي قرية وهي خاوية علي عروشها (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم بعثه..) وقصة بقرة بني إسرائيل (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) وقصة أصحاب الكهف (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها) وقصة الألوف من بني اسرائيل الذي خرجوا حذر الموت قال تعالي (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم..) "
وعطيه هنا عدد الأسباب الجزئية وأفلح في الكثير منها وكلها يدخل ضمن بيان الحق من الباطل
وفى المبحث الثالث تحدث عن كتاب الفن القصصى لمحمد احمد خلف الله وكونه نسخة من كتب الكفار الذين يسمون المستشرقين فقال :
"المبحث الثالث الصدق والواقعية في القصة القرآنية
القصص القرآني كله حق وصدق لا كذب فيه ولا افتراء ولا مجال فيه للخيال أو الوهم لأنه من كلام الحكيم الخبير (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) (نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون) ذلك أن من القصص البشري ما يحكي واقعا ويصور حقائق ثبت وجودها ومنه ما هو نسج خيال مؤلفه والقصص الخيالي إنما يلجأ إليه من أعوزته الحقائق أو عجز عن تصويرها تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا
والحقيقة التى لا ريب فيها أن القصة في القرآن الكريم بنيت بناء محكما علي الحقائق الثابتة الخالصة من زخرف القول وباطله ونسج الخيال وأسست علي الحق والصدق والواقع ولم يكن للخيال أو الوهم أو المبالغة مدخل إليها قال تعالي (إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم) فهو قصة وقعت في غابر الأزمان ..(وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا)
هذا ولما كانت القصة القرآنية إحدي الأساليب التى اهتم بصوغها القرآن الكريم فقد حاول المستشرقون وأعداء الإسلام أن يشككوا في صدق القصص القرآني وأنه مخالف للتاريخ وأوردوا شبهات واعتراضات لا أساس لها ولا دليل عليها يدفعهم لذلك الحقد والتعصب لمعتقداتهم محاولين بذلك زعزعة ثقة المسلمين في كتابهم المعجز ومصدر دينهم
وإذا كان هذا الأمر يبدو غريبا من المستشرقين فإنه يكون أشد غرابة وأعظم خطرا إذا صدر عن غير واحد من المسلمين أو قل الذين ينتسبون إلي الإسلام الذين أخذوا يرددون ما يقوله المستشرقون ويروجون له ...ومن هؤلاء محمد أحمد خلف الله صاحب كتاب "الفن القصصي في القرآن الكريم" وهذا الكتاب في الأصل كان رسالة دكتوراه أشرف عليها وقدم لها وناضل من أجلها الأستاذ أمين الخولي وقال في مقدمة الطبعة الثالثة لها مادحا خلف الله ومثنيا عليه "أنه من الذين آمنوا بالعلم وآمنوا بالحق وآمنوا بالتطور فمضوا يدرسون القرآن كتاب العربية الأكبر دراسة فنية متجددة مستفيدين من التقدم الفني والعقلي والاجتماعي فانتهوا بذلك إلي أن قدموا التفسير الأدبي خطوة للأمام بعيدة الأثر خطوة حسبها أن تمنع ازدواج الشخصية في المتدين.."
والحق أن هذه الرسالة مليئة بالأخطاء والأباطيل والطعن في القرآن الكريم وقصصه
وقد تلقفها بعض المستشرقين ومن علي شاكلتهم بالإعجاب والتقدير ... وقد قوبلت هذه الرسالة في مصر بما تستحق من نقد وتفنيد وتصدي لها العلماء يردون علي ما فيها من افتراءات وضلالات حتي إنهم حكموا عليه بالكفر والزندقة - وصارت - هذه الرسالة مثلا علي ضلال المنهج الذي يتبعه التخبط في نتائج غير مسددة
هذا وقد عرض كثير من العلماء لآراء المؤلف عرضا دقيقا ...وبينوا الخطأ المنهجي الذي وقع فيه المؤلف وترتبت عليه بعد ذلك كثير من أحكامه المتعسفة وآرائه الشاذة التى تنفي الصدق عن أخبار القرآن الكريم ذلك أنه أخضع القصة القرآنية لمقاييس القصة الأدبية بمفهومها العصري الحديث ونسي أو تناسي أن القصة في اصطلاح القرآن الكريم تختلف عن القصة في الاصطلاح الأدبي الحديث "فنقطة الخطأ الأولي في منهج المؤلف تكمن في هذا الخلط بين القصص باصطلاحه القرآني الأصيل وبين القصص باصطلاحه الأدبي الحديث ...والدليل علي ذلك أن الدارسين للقصة مكثوا زمنا طويلا يعتقدون أن القصة المثلي تتكون من الغرض والعقدة والحل مستشهدين لذلك بما عرفوا وقرأوا لأساطين القصاص في الشرق والغرب "ثم جد وقت ينكر أن تلتزم القصة بهذا المنهج التقليدي إذ ليس من الضروري أن يكون لكل قصة عقد تتطلب الحل عند قوم كما أنه ليس من الضروري عند قوم أخرين أن يكون لكل قصة حل نهائي يتم به الفصل الأخير إذ أنه من الجائز فنيا لدي هؤلاء أن تظل النهاية مفتوحة غير منغلقة ليذهب كل قارئ في تصويرها كما يشاء فماذا نصنع إذا عمد ناقد في زمن ما إلي قصة قرآنية ليبحث عن خطواتها الثلاث محاولا اكتشافها ولم يهتد إلي خطوة منها قد يراه ناقد لاحق لا يقل عنه في مرتبته الفنية شيئا غير ذي بال
إن القصة القرآنية حينئذ ستكون جيدة عند ناقد دون ناقد وفق تطور مقاييسنا النقدية وبذلك تصبح القصة القرآنية ممتازة في عصر ومنحدرة في عصر سواه تبعا للمقاييس النقدية المتغيرةط
وهذا النقد الذى ذكره عطيه نقد صادق فلا يصح تطبيق قوانين اخترعها بشر على كلام الله لأن كلام الله نزل ليكون الحكم على كلام البشر وليس العكس كما قال تعالى :
"وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس"
وتحدث عطيه مرة أخرى عن نفس الخطأ فقال :
"إن القرآن كلام الله ومن عند الله هذه الحقيقة نحاها خلف الله جانبا وساق القرآن سوقا ودفعه دفعا إلي ساحة الفن وحكم فيه مقاييس الفن وأخذه بمعاييره كأي كلام أدبي يصدر من كاتب أو خطيب أو شاعر فقد استولت عليه هذه الدراسة الفنية للأدب العربي فخيل إليه أنه يستطيع أن يدخل بها علي القصص القرآني وأن يعرضه عرضا فنيا, فأخطأ المنهج وضل الطريق ..بل وأكثر من هذا ذهب إلي القول بوجود القصة الأسطورية في القصص القرآني ونسي أنه أمام نمط من القول لا يخضع لمقاييس فنيه تروج حينا وتكسد حينا آخر"
وتعرض عطيه لخطأ أخر في الكتاب وهو اعتراف خلف الله بوجود قصص أسطورية في القرآن فقال :
"فقد ذهب إلي نفي الصدق التاريخي في أخبار القرآن الكريم وقصصه ...وعلى ذلك فهو لا ينفي وجود القصة الأسطورية في القرآن الكريم ويعتبرها تجديدا في الحياة الأدبية المكية جاء به القرآن الكريم حين بنى القصص الدينى على بعض الأساطير
وليست له فى ذلك من الأدلة المقنعة ما يدعم رأيه فهو لم يعرض بصورة جلية نماذج من القصص القرآني الذى انتفت عنه الواقعية التاريخية ويثبت له خصائص القصة الأسطورية - إن كان لهذا النوع وجود في القرآن الكريم - بل اقتصر على القول بأن القرآن نفسه لم يحرص على أن ينفي وجود الأساطير فيه وإنما حرص على أن ينكر أن تكون هذه الأساطير هى الدليل على أنه من عند محمد (ص) وليس من عند الله فهو يقول "وإذا كان هذا ثابتا فإنا لا نتحرج من القول بأن فى القرآن أساطير لأنا في ذلك لا نقول قولا يعارض نصا من نصوص القرآن"
"وهنا نجد تعارضا ملموسا فى تصويره لموقف المفسرين مما يسميه المؤلف بالقصة الأسطورية في القرآن الكريم ويكفينا هنا أن نورد عبارتي المؤلف لتوضيح ذلك فهو يقول مرة "لم يقل واحد من المفسرين بوجود القصة الأسطورية فى القرآن الكريم بل على العكس نرى منهم كما نرى من بعض المحدثين نفورا من لفظ الأسطورة ومن القول بأنها فى القرآن ولو إلى حد ما" ثم يقول مرة أخرى "القصة الأسطورية إذا من القصص الأدبي الذى نجد من المفسرين من أجاز أن يكون موجودا فى القرآن الكريم"
هذا وقد استدل خلف الله على ذلك بآيات من القرآن الكريم تبين أن مشركي مكة وصفوا قصص القرآن الكريم بأنه أساطير الأولين
ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
1 - قوله تعالى " حتى إذا جآؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين"
2 - قوله تعالى "وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين"
3 - قوله تعالى "وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا"
4 - قوله تعالى "وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين"
وأنت ترى أن صاحب الفن القصصى حينما أراد أن يستدل على دعواه بهذه الآيات قطع بين الآية وما قبلها وما بعدها من آيات تتصل بموضوع المقولة التى يقولها الكفار في القرآن بأنه أساطير الأولين
ثم إن هذه المقولة "أساطير الأولين" لا يقصدون منها القصص القرآني وإنما يقصدون القرآن الكريم كله بل إنهم قالوا فى القرآن ما هو أكثر من هذا فلم اقتصر على هذه المقولة؟ قالوا في القرآن (فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر)
وقالوا في النبى (ص) (إنما يعلمه بشر) وقالوا في القرآن الكريم "بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون"
أليست هذه المقولات وأمثالها تصدر عن موقف واحد إزاء القرآن الكريم كله لا القصص وحده وانظر - مثلا - فى الآية الثالثة التي ذكرها فى استدلاله تجد أنها انتزعت انتزاعا من بين الآيات السابقة واللاحقة ومع أنك لو قرأتها فى سياقها منسجمة مع السابق واللاحق تجد - أنها ترد عليه ولا تؤيده اقرأ "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما"
أفيكون قولهم "إن هذا إلا إفك افتراه" ثم قولهم "أساطير الأولين اكتتبها" متجها إلى القصص القرآني أم إلى القرآن كله وهو الفرقان الذى جاء ذكره فى أول السورة
ثم إن الآية تحكي قول الذين كفروا فى ذلك ثم تعقب عليه بأن الذى أنزل هذا القرآن إنما هو الذي يعلم السر فى السماوات والأرض ولا شك أن ثبوت نسبة القرآن إلى الله تعالى ما ينفي عنه قطعا أن يكون فى قصصه أساطير وفى هذا أبلغ بيان فى نفي زعم الأسطورة عنه ..هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنه ينبغى تحديد المعنى المراد من قولهم "أساطير الأولين" فأساطير جمع الجمع لسطر وأسطر ومفرده سطر وهو الخط والكتابة ومنه قوله تعالى "كان ذلك فى الكتاب مسطورا" أى مكتوبا فيكون المعنى أن القرآن في زعمهم مما كتبه وسطره الأولون ويؤيد هذا أن الذين زعموا ذلك إنما هم المشركون من العرب
والعربي كان يتصور الأشياء كما يتوهم عقله الساذج ولكنه لا يخترع الأساطير حولها مهما كانت عنده هذه الأشياء غامضة معقدة
ومن هنا جاء قصصه بعيدا عن الخيالات التى تبدو فى أكثر القرآن الميثولوجي والأساطير الشعبية لدى الأمم الأخرى كأساطير اليونان والهنود والفراعنة فلم يكن العرب يعرفون الأسطورة بهذا المعنى حتى يحمل عليه ما حكاه القرآن عنهم"
إنه يكفينا فى الرد عليه قوله تعالى " إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد "
فإذا كان المضمون التاريخي فى القصص القرآني - كما يزعم - باطل فى الحقيقة ونفس الأمر ألا يكون هذا معارض معارضة صريحة لمضمون هذه الآية التى تنفي إمكان أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
وما قوله في قوله تعالى "ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون"
فقد رد الله تعالى على دعوى الافتراء بإثبات أنه هو الحق من الله فهل يتمشى مع منطق العقل أو أساليب البيان أن يكون حقا قد احتوى باطلا؟ وهل يصدق عليه وصف "الحق" حينئذ؟"
وقطعا أخطأ خلف الله فقد حمل مقولة الكفار على كونها صدق في اتهام القرآن بكونه أساطير ومن قال قولهم فقد كفر مثلهم فالقرآن بما فيه قصص هو كلام الله صدق ليس فيه كذب
ولو قال أن القرآن يحكى لنا بعض أساطير الكفار لصدق لأنه بالفعل يحكى بعض قصص الكفار الكاذبة مثل كون الملائكة بنات الله وكون عيسى ابن الله وكون الله ثالث ثلاثة
وتحدث عطيه عن كون قصص القرآن نوع من إعجاز الغيب الذى ما كان يعلمه البشر فقال :
"ثم نسأل المؤلف سؤلا إذا كان الأديب تلجئه الفكرة وضرورات الفن إلى مجاوزة الصدق فى رواية التاريخ فهل يجوز ذلك على الإعجاز القرآني؟ أليس في القرآن ما يدل على القصد إلى الإخبار التاريخي؟ وكيف يفسر المؤلف تلك الآيات التى يبدو فيها القصد إلي الإعجاز التاريخي واضحا مثل قوله تعالى "تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا "
قوله "نحن نقص عليك نبأهم بالحق "
قوله "تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق "
...وقوله تعالى " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون"
وبين أن خلف الله انتقد اختلاف عبارات القرآن في التعبير عن نفس القصة في سور متعددة فقال :
"هذه أسئلة لا نجد لها جوابا عند المؤلف فقد تكلف الأدلة الباطلة ليزعم أن اختلاف جزئيات القصة الواحدة فى عدة مواضع تفيد الانطلاق من تحري الصدق وهو غير صحيح لأننا لا نرى تعارضا بين هذا الاختلاف الجزئي وبين الصدق التاريخي فالتفصيلات كلها قد حدثت وإنما يختار القرآن ما يتصل بالمشهد التى ترد فيه "
واما اختلاف العبارات ففى الكثير من القصص تكرار الحادثة بلفظ مختلف وهو قليل هو تفسير لكلمة في القصة فمثلا قول تعالى:
"قال ألقوا فلما ألقوا "
نجد تفسير القول في سورة أخرى:
" قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم"
فالملقى في أية لم يذكر وفى آية أخرى ذكر فهو تفسير ومثلا نجد قوله :
"إنى آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو أتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون"
فسر الله الشهاب القبس بكونه جذوة من النار فقال في تفسير لها:
"إنى أنست نارا لعلى أتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون"
فالاختلاف في الغالب هو تفسير وأما في مواضع قليلة فهو ذكر لجزء لم يذكر في سورة سابقة
وتحدث عطيه عن تحكيم خلف الله للتاريخ في قصص القرى، فقال :
"وبالنظر في الآيات السابقة - وأمثالها كثير في القرآن - نجد أنها قد أثبتت أن القرآن الكريم كله حق نزل من عند الله تعالى وآياته كلها حق وقصصه كله حق لأن الله تعالى لا يقص إلا بالحق وهو يقص علينا قصة أهل الكهف بالحق ونبأ موسى وفرعون بالحق ووحيه كله حق وكتابه حق لا يصل إليه الافتراء والكذب بأي وجه من الوجوه كما قال تعالى "وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين"
إن الخطأ الذى وقع فيه خلف الله وأمثاله أنه حكم التاريخ فيما جاء فى القرآن الكريم من قصص وأخبار واعتمد عليه فلما رأي أن هناك بعض التعارض بين التاريخ والقرآن نفى الصدق التاريخى عن القرآن الكريم
وإنى لأحيل هؤلاء على ما كتبه العلامة ابن خلدون فى مطلع مقدمته المشهورة عن آفة التواريخ من خلط الحقائق بدسائس من الباطل "وهموا فيها وابتدعوها وزخارف من الروايات الضعيفة لفقوها ووضعوها واقتفي تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها وأدوها إلينا كما سمعوها"
فهذا إذن شأن كثير من التواريخ القديمة غير المنضبطة فهى تهمل وتنسى وتحرف وتخدع وتتوهم
وللأستاذ سيد قطب في هذا كلام يحسن أن أنقله على طوله ففيه خير وفائدة يقول:
إن الباحث المنصف - علي فرض أنه - لو نظر إلى القرآن الكريم وجرده من كل قداسة دينية ثم ينظر إليه كمصدر تاريخي بحت فماذا يجد؟؟ يجد أننا لا نملك كتابا آخر ولا أثرا تاريخيا آخر فى تاريخ البشرية كلها توافرت له أسباب التحقيق العلمى البحتة كما توفرت لهذا الكتاب
فإنه من البديهي أننا لا نملك فى إثبات صحة الحوادث التي تحدث عنها القرآن أو عدم صحتها إلا وسيلتين اثنتين ولكن واحدة منهما ليست قطعية وليس لها من قوة الثبوت ما للقرآن ...ومثل هذا التحقيق العلمي لم يتهيأ لكتاب آخر لا من الكتب المقدسة ولا من الكتب التاريخية ولا من الآثار التاريخية أيضا فالكتب المقدسة الأخرى قد انقضت فترات طويلة بين حياة أصحابها وعصر تدوينها ولم ترو بالإسناد الذى روى به القرآن والكتب التاريخية والآثار التاريخية لا ترتفع فوق مستوى الشبهات وليست هناك حادثة تاريخية واحدة فى تاريخ البشرية تعد يقينا علميا خالصا
إذن لا تجوز محاكمة القرآن - ككتاب تاريخي بحت - إلى أي كتاب تاريخي آخر أو أي سند تاريخي ليس له من قوة الثبوت ما لكتاب القرآن
والوسيلة الأخرى التى بين أيدينا هى العقل ..
هذا ومما تجدر الإشارة إليه أن القرآن الكريم جاء بلسان عربي مبين والشخصيات التى وردت فى قصصه لم يكن لسانها عربيا كنوح وإبراهيم وفرعون وأصحاب الكهف ويوسف وأخوته وامراة العزيز وكل الأنبياء وأقوامهم إلى غير ذلك من الشخصيات التى نطق عنها القرآن الكريم بلسان عربي مبين
ففرعون مثلا نطق عنه القرآن الكريم بمقولات كثيرة كقوله "ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين"
وقوله "وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى "
وقوله لموسي (ص)ممتنا عليه "قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين"
فإنه مما لا شك فيه أن فرعون لم ينطق بهذه الكلمات العربية وإنما الذى نطق به هو ما تحمله هذه الكلمات من معنى وكذلك كل ما نطق به الأنبياء وأقوامهم
وأكثر من هذا الجماد والحشرات والطير ينطقها القرآن الكريم بهذا اللسان العربي المبين قال تعالى "ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين"
وقال تعالى "حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون" والهدهد يقول لسيدنا سليمان "أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون"
والذى يجب أن يعلم في هذا أن القرآن الكريم في قصصه يحكي مقولات المتحاورين والمجادلين والناطقين فى الحدث الذى يقصه - يحيكها - كما هي فى مضمونها ومفهومها وإن جاءت بلسان غير لسانهم وبلغة غير لغتهم فالقرآن إذ يحكي عن قوم كانوا يتكلمون بالسريانية - مثلا - وينقل أقوالهم ومجادلاتهم فإنه يعرب عن معاني ألفاظهم ومضامين كلامهم باللغة العربية في ترجمة أمينة صادقة كاملة لا نقص فيها ولا زيادة وهى ترجمة دقيقة لا تحريف فيها ولا تبديل لأنها من خالق اللغات ومن العليم بدقائق الكون وأسرار الكائنات
وبهذا ترى أن القصص القرآني كله حق وصدق ولا مجال فيه للخيال والافتراء والأساطير وصدق الله إذ يقول "وبالحق أنزلناه وبالحق نزل"
وهذا النقل عن الآخرين بعضه مفيد وكان الأحرى بالقوم أن يناقشوا الأمر من الجهة الأخرى وهو كذب التاريخ فلو كان التاريخ صادقا ما تعددت رواياته وما تعددت الآثار التى يتم العثور عليها والتى تعطينا نتائج مختلفة فما يسمى مثلا بحجر رشيد وجدت نسخ متعددة منه وهى نسخ غير متفقة في عدد الكلمات وفى محتواها وفى ذلك قلت في كتابى حجر رشيد وكشف أسرار اللغة المصرية القديمة :
"مقارنة بين الألواح الثلاثة فى عدد السطور:
لوح كانوب 37 هيروغليفى 76 ديموطيقى 74 يونانى
لوح كوم الحصن26 هيروغليفى 20 ديموطيقى 64 يونانى
لوح رشيد14 هيرو غليفى 32 ديموطيقى 54 يونانى"
الغريب أنه رغم الاختلاف الكبير في عدد السطور وعدد الكلمات نجد بعض المؤرخين يصرون على أن الألواح الثلاثة متطابقة المعنى وهو كلام نفاه البعض الأخر ومن ثم فالأحجار تزور والآثار تزور والدليل أن ألواحنا التى يقال عنها مصرية لم يعثر عليها واحد من أهل مصر وإنما كلهم أجانب من الكفار والتاريخ قد يكون صحيحا لو أن بشر من كل الأقوام هم من اكتشفوا تلك الآثار وهم من ترجموها ولكن 99% من آثار العالم اكتشفها كفار من الغرب وترجمها كفار من الغرب
والكلام يطول في كذب التاريخ ولكن من يفهم سيقتنع من خلال اختلاف ألواح حجر رشيد حقيقة أن تاريخ العالم الحالى معظمه إن لم يكن كله مزور
مؤلف الكتاب أمين محمد عطية باشا وهو يدور حول تأصيل قواعد القصة القرآنية في النصف ألأول وفى النصف الثانى نقد لكتاب محمد أحمد خلف الله الفن القصصى في القرآن وفى مقدمته تكلم عطيه عن أهمية القصة في القرآن فقال :
"وبعد
...- فإن القصة القرآنية ركيزة قوية من ركائز الدعوة الإسلامية القائمة علي الإقناع العقلي والاطمئنان القلبي بما تدعو إليه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
ولهذا فقد عني القرآن الكريم بذكر القصص عناية فائقة وأولاه اهتماما خاصا وذلك لأغراض وأهداف سامية
- ولما كانت القصة القرآنية احدي الأساليب التى اهتم بصوغها القرآن الكريم فقد حاول المستشرقون وأعداء الإسلام أن يشككوا في صدق القصص القرآني وأنه مخالف للتاريخ وأوردوا شبهات واعتراضات لا أساس لها ولا دليل عليها"
وقد استهل الحديث ببيان معنى القصة في القرىن وقد أفلح في ذلك فقال :
"المبحث الأول معني القصة في اللغة والقرآن الكريم
معني القصة في اللغة:
أصل القصة في اللغة المتابعة وذلك أن القاص يتبع الخبر بعضه بعضا قال تعالي " (وقالت لأخته قصيه) أي تتبعي أثره وقال تعالي " (فارتدا على آثارهما قصصا) أي رجعا من الطريق الذي سلكاه يقصان الأثر
والقص البيان قال تعالي " (نحن نقص عليك أحسن القصص) أي نبين لك أحسن البيان ومنه قوله تعالي:" (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) وقوله تعالي " (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك)
...والقصص بالفتح بمعني الخبر المقصوص وضع موضع المصدر حتي صار أغلب عليه
ومما تقدم يتبين لنا أن القصص معناه المتابعة كما أكد هذا المعني القرآن الكريم كما أن هذه المتابعة لا تكون إلا عن طريق البيان وسرد الأحداث بصدق وروايتها علي وجهها ويؤيد ذلك أن القصص بمعني القطع فأنت حينما تقص الحديث تقطع بصحته دون زيادة أو نقصان كما أنه يمكن أن نستدل بهذا المعني اللغوي علي أن القصة لا تكون قصة في أصل وضعها إلا إذا قطع بصحتها فليس فيها مجال للكذب والخيال
وبهذا تري أن القصة في أصل اللغة العربية حقيقة واقعة لأن القاص تتبع الأثر وأتي به مستوعبا كل وجوه الصحة والصدق فيه"
معني القصة في القرآن الكريم:
وعلي هذا المعني اللغوي جاء معني القصة في القرآن الكريم قال تعالي " (إن هذا لهو القصص الحق) أي الخبر الصادق وقال تعالي (نحن نقص عليك نبأهم بالحق) (نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق) فالقصص القرآني في اصطلاح العلماء بالقرآن الكريم هو:
"إخبار الله عما حدث للأمم السابقة مع رسلهم وما حدث بينهم وبين بعضهم أو بينهم وبين غيرهم أفرادا وجماعات من كائنات بشرية أو غير بشرية بحق وصدق للهداية والعظة والعبرة" وذلك كقصص آدم ونوح وإبراهيم وموسي وعيسي وداود وسليمان ولقمان وذي القرنين إلي غير ذلك من القصص المذكور في القرآن الكريم"
وإلى هنا والكلام صحيح عدا أن لفظ القص لا يعنى في كل القرآن معنى واحد فقوله تعالى :
" إن هذا لهو القصص الحق" لا يعنى الحكايات وإنما يعنى أن حكم المباهلة هو الحكم العادل في الخلاف
وكذلك قوله:
"إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين"
فالقص هنا بمعنى القول والمراد يوحى العدل وهو حكمه
وقد اعتبر عطيه أن القصص تطلق فقط على حكايات السابقين وأما ما حدث لمحمد(ص) وأصحابه فهو ليس من القصص فقال:
"أما حكاية القرآن عما حدث لسيدنا محمد (ص)مع قومه فلا يعد من قصص القرآن وذلك كغزواته وزواجه وما حدث بينه عليه الصلاة والسلام وبين أصحابه يؤيد ذلك ويدل عليه قوله تعالي:
(كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق)
وبهذا تري أن القرآن الكريم أطلق لفظ القصص علي ما حدث به من أخبار الأمم السابقة والقرون الأولي في مجالات الرسالات السماوية وما كان يقع في محيطها من صراع بين الخير والشر والحق والباطل"
وهذا استدلال باطل لأن المقصوص في ذلك الموضع هو أخبار السابقين وأما القصص فمعناها ينطبق على أى أحداث وقعت بالفعل وسجلت كما هى بدليل أن موسى سمى ما حدث له مع فرعون وقومه قصص كما قال تعالى :
"فلما جاءه وقص عليه القصص "
ومن ثم فالقصص لا تطلق على حكايات الماضين وغنما تطلق على كل الحكايات الصادقة سواء وقعت لموتى أو أحياء
وتحدث عن أن معنى القصة عند الأدباء يختلف عن معناها في القرآن فالقضة عند الأدباء تطلق على الحكايات الصادقة وهى الواقعية والكاذبة وهى المتخيلة والمختلط فيها هذا بذلك وفى هذا قال :
فالقصة في استعمالات العرب وفي مفهوم القرآن الكريم تختلف عن "القصة بالمعني الأدبي الحديث وتلك حقيقة لا يماري فيها إلا مكابر "وإذا كان الأدباء اليوم ينتزعون من الخيال أقوالا ويقولون أنها قصة فذلك أمر لا يعرفه العرب ولا يجري علي ألسنتهم وصح لنا أن نطلق عليها أساطير مادامت لم تقع"
ذلك أن القصة الأدبية في القديم وفي الحديث لم تقف عند الحقيقة التاريخية وحدها بل كانت تعتمد علي كثير أو قليل من عنصر الخيال الذي من شأنه أن يلون الأحداث بألوان غير ألوانها وأن يبدل ويغير في صورها وأشكالها وذلك لكي تبدو الأحداث مختلفة في وجوهها عما ألف الناس أن يروها عليه"
وتحدث عن الفرق بين القصة والأسطورة فقال :
"ولعل من الضروري أن أفرق بين القصة بهذا المعني - أعني في القرآن الكريم - وبين الأسطورة
"فالأساطير الأباطيل والأكاذيب والأحاديث لا نظام لها جمع إسطار وإسطير بكسرهما .."
وبهذا تري أن الأسطورة لا تطلق إلا علي الأكذوبة من الكلام وعلي القول الذي لا يعقل كتأليف الأباطيل والخرافات
أما القصة القرآنية فقد بنيت بناء محكما من لبنات الحقيقة المطلقة التى لا يطوف بحماها طائف من خيال ولا يطرقها طارق منه "
والأساطير في القرآن لا تعنى حكايات السابقين وإنما تعنى معتقدات أى الأحكام التى اخترعها الكفار سواء كانت في قالب حكايات وهو قليل أو في قالب قول معتقد ما فمثلا يطلقون على البعث اسطورة كما قال تعالى:
"بل قالوا مثل ما قال الأولون قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين"
وحدثنا في المبحث التالى عن عناية القرآن بالقصص فقال :
"المبحث الثاني عناية القرآن الكريم بالقصص
القصة كانت - ولا تزال - مدخلا طبيعيا يدخل منه أصحاب الرسالات والدعوات والهداة والقادة إلي الناس وإلي عقولهم وقلوبهم ولعل عصرنا هذا هو خير شاهد علي ما للقصة من سلطان في الحياة ...وإذا كان البشر يعنون بهذا النوع من الأدب مع قصورهم في كشف سمات الواقع الإنساني أفلا يعني القرآن الكريم -وهو كتاب الإنسانية الأكبر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - بالقصص؟ فيقص علينا حال الأمم السابقة والمجتمعات البائدة التى تتكرر أحداثها مع الزمن ويصف عللها وأمراضها ويعالجها بما يكفل لها الاستقرار والفلاح في الدنيا والأخرة"
وهذا القول بالمقارنة بين الله والناس قول خاطىء فقول الله للقصص مخالف لقول البشر ولا تصح المقارنة بين الوحى وغيره
وقد حاول عطيه أن يجيب عن سبب عناية القرآن بالقصص فقال :
وفي هذا المبحث سأحاول الإجابة علي سؤال يتردد علي الذهن هو:
لماذا عني القرآن الكريم بذكر القصص؟ فأقول:
- عني القرآن الكريم بذكر القصص لأغراض أهمها ما يأتي:
1 - الدعوة إلي التوحيد فلم يرسل الله رسولا قط إلا بدعوة قومه إلي توحيد الله عز وجل ونبذ عبادة ما سواه قال تعالي (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون)
وكذلك الدعوة إلي أصول الديانات من البعث والإيمان بالكتب والرسل والأخلاق العامة التي لا تصلح المجتمعات بدونها
2 - بيان أن دعوة الرسل جميعا واحدة وأن الدين الذي جاء به الجميع واحد من عهد نوح إلي عهد محمد (ص)وأن المؤمنين كلهم أمة واحدة والله الواحد رب الجميع فلا عذر لمن يتخلف عن الإجابة ويتبع هواه وفي ذلك يقول الله تعالي (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب)
ويقول تعالي في قصة نوح(ص) (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره )
وفي شأن صالح (ص)يقول تعالي (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب)
وهود (ص)يقول الله عنه (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)
وقال تعالي في شأن شعيب (ص)(وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)
3 - إثبات الوحي والدلالة علي صحة رسالة سيدنا محمد (ص)فإن هذا القصص إخبار بالغيب بالنسبة له (ص)لأنه أمي لم يقرأ هذا القصص من كتب السابقين ولم يثبت أنه تعلم أو تلقي شيئا من ذلك من أحبار اليهود والنصاري فورود القصص في القرآن الكريم بهذه الدقة والإحكام وبلوغ الغاية في الفصاحة والبيان دليل علي أنه وحي يوحي وأن الرسول (ص)لم يأت به من تلقاء نفسه وقد نص القرآن الكريم علي هذا في مقدمات بعض القصص أو في التعقيب عليها في نهايتها قال تعالي (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) وقال تعالي في قصة مريم (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون)
واقرأ في هذا ما جاء تعقيبا علي قصة موسي (ص)في سورة القصص يقول الله تعالي (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين) (ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون)
إن في أخبار الرسول (ص)بهذه الغيوب الماضية وهو لم يكن حاضرا ولا مشاهدا ولا مقيما بينهم مع انتفاء تعلمه ذلك من بشر دليل علي نبوته وإثبات لرسالته (ص)
4 - التأسي بأولي العزم من الرسل فيما لا قوه في سبيل الله والدعوة إليه من الأذى والاضطهاد وهم مع ذلك ثابتون علي مبدئهم القيم ودينهم الحق ..فنوح (ص)سخروا منه وقالوا له (قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين) وهود (ص)قالوا له (قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين) واستهزأوا بشعيب (ص)وقالوا له (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز)
وعيسى (ص)أرادوا أن يقتلوه قال تعالي (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم)
5 - تسلية النبي (ص)وتثبيت فؤاده وتقوية عزيمته رغم ما يلاقي من أذي واضطهاد فما يقال له إلا ما قد قيل للرسل من قبله وإن يكذبوه فقد كذبت رسل من قبله فصبروا علي ما كذبوا قال تعالي (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) وقال تعالي (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين)
وفي هذا أيضا تثبيت - كذلك - للمؤمنين وغرس الثقة في نفوسهم وتسليتهم عما أصابهم بما آلت إليه حال المؤمنين السابقين وحال الكافرين
6 - إعلام النبي (ص)وإعلام المسلمين بأحوال الأنبياء والأمم السابقين لتكون لديهم الحجة لمعارضة أهل الكتاب في تحديهم وتعنتهم كما قال تعالي (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) ..
7 - في القصة القرآنية دلالة علي قدرة الخالق من حيث الإعطاء والمنع والإنجاء والإهلاك وخلق خوارق العادات كخلق أدم وقصة مولد عيسي (ص)وقصة إبراهيم والطير وعصا موسي ويده التى يدخلها في جيبه ثم يخرجها فإذا هي بيضاء للناظرين من غير مرض وإبراء عيسي للأكمه والأبرص وإحياؤه الموتي بإذن الله وإخراجه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وكذلك ناقة صالح التى جعلها الله له آية وإماتة الله رجلا مائة عام ثم بعثه إلي غير ذلك من الخوارق التى تدل علي قدرة قادرة وتدبير إلهي حكيم
8 - العظة والعبرة لكل من الفريقين - المؤمنين والكافرين ..قال تعالي (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)
9 - بيان عاقبة التقوي والصلاح وعاقبة الشر والفساد كقصة ابني أدم وقصة صاحب الجنتين وقصص بني إسرائيل بعد عصيانهم وقصة سد مأرب وقصة أصحاب الأخدود إلي غير ذلك من القصص
10 - بيان نعمة الله علي أنبيائه وأصفيائه كقصص سليمان وداود وأيوب وإبراهيم ومريم وعيسي وزكريا ويونس وموسي فكانت ترد حلقات من قصص هؤلاء الأنبياء تبرز فيها النعمة في مواقف شتي ويكون إبرازها هو الغرض الأول وما سواه يأتي في هذا الموضوع عرضا
11 - إثبات عقيدة البعث والجزاء ورفع الشك عنها ويبدو ذلك واضحا جليا في قصة الذي مر علي قرية وهي خاوية علي عروشها (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم بعثه..) وقصة بقرة بني إسرائيل (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) وقصة أصحاب الكهف (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها) وقصة الألوف من بني اسرائيل الذي خرجوا حذر الموت قال تعالي (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم..) "
وعطيه هنا عدد الأسباب الجزئية وأفلح في الكثير منها وكلها يدخل ضمن بيان الحق من الباطل
وفى المبحث الثالث تحدث عن كتاب الفن القصصى لمحمد احمد خلف الله وكونه نسخة من كتب الكفار الذين يسمون المستشرقين فقال :
"المبحث الثالث الصدق والواقعية في القصة القرآنية
القصص القرآني كله حق وصدق لا كذب فيه ولا افتراء ولا مجال فيه للخيال أو الوهم لأنه من كلام الحكيم الخبير (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) (نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون) ذلك أن من القصص البشري ما يحكي واقعا ويصور حقائق ثبت وجودها ومنه ما هو نسج خيال مؤلفه والقصص الخيالي إنما يلجأ إليه من أعوزته الحقائق أو عجز عن تصويرها تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا
والحقيقة التى لا ريب فيها أن القصة في القرآن الكريم بنيت بناء محكما علي الحقائق الثابتة الخالصة من زخرف القول وباطله ونسج الخيال وأسست علي الحق والصدق والواقع ولم يكن للخيال أو الوهم أو المبالغة مدخل إليها قال تعالي (إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم) فهو قصة وقعت في غابر الأزمان ..(وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا)
هذا ولما كانت القصة القرآنية إحدي الأساليب التى اهتم بصوغها القرآن الكريم فقد حاول المستشرقون وأعداء الإسلام أن يشككوا في صدق القصص القرآني وأنه مخالف للتاريخ وأوردوا شبهات واعتراضات لا أساس لها ولا دليل عليها يدفعهم لذلك الحقد والتعصب لمعتقداتهم محاولين بذلك زعزعة ثقة المسلمين في كتابهم المعجز ومصدر دينهم
وإذا كان هذا الأمر يبدو غريبا من المستشرقين فإنه يكون أشد غرابة وأعظم خطرا إذا صدر عن غير واحد من المسلمين أو قل الذين ينتسبون إلي الإسلام الذين أخذوا يرددون ما يقوله المستشرقون ويروجون له ...ومن هؤلاء محمد أحمد خلف الله صاحب كتاب "الفن القصصي في القرآن الكريم" وهذا الكتاب في الأصل كان رسالة دكتوراه أشرف عليها وقدم لها وناضل من أجلها الأستاذ أمين الخولي وقال في مقدمة الطبعة الثالثة لها مادحا خلف الله ومثنيا عليه "أنه من الذين آمنوا بالعلم وآمنوا بالحق وآمنوا بالتطور فمضوا يدرسون القرآن كتاب العربية الأكبر دراسة فنية متجددة مستفيدين من التقدم الفني والعقلي والاجتماعي فانتهوا بذلك إلي أن قدموا التفسير الأدبي خطوة للأمام بعيدة الأثر خطوة حسبها أن تمنع ازدواج الشخصية في المتدين.."
والحق أن هذه الرسالة مليئة بالأخطاء والأباطيل والطعن في القرآن الكريم وقصصه
وقد تلقفها بعض المستشرقين ومن علي شاكلتهم بالإعجاب والتقدير ... وقد قوبلت هذه الرسالة في مصر بما تستحق من نقد وتفنيد وتصدي لها العلماء يردون علي ما فيها من افتراءات وضلالات حتي إنهم حكموا عليه بالكفر والزندقة - وصارت - هذه الرسالة مثلا علي ضلال المنهج الذي يتبعه التخبط في نتائج غير مسددة
هذا وقد عرض كثير من العلماء لآراء المؤلف عرضا دقيقا ...وبينوا الخطأ المنهجي الذي وقع فيه المؤلف وترتبت عليه بعد ذلك كثير من أحكامه المتعسفة وآرائه الشاذة التى تنفي الصدق عن أخبار القرآن الكريم ذلك أنه أخضع القصة القرآنية لمقاييس القصة الأدبية بمفهومها العصري الحديث ونسي أو تناسي أن القصة في اصطلاح القرآن الكريم تختلف عن القصة في الاصطلاح الأدبي الحديث "فنقطة الخطأ الأولي في منهج المؤلف تكمن في هذا الخلط بين القصص باصطلاحه القرآني الأصيل وبين القصص باصطلاحه الأدبي الحديث ...والدليل علي ذلك أن الدارسين للقصة مكثوا زمنا طويلا يعتقدون أن القصة المثلي تتكون من الغرض والعقدة والحل مستشهدين لذلك بما عرفوا وقرأوا لأساطين القصاص في الشرق والغرب "ثم جد وقت ينكر أن تلتزم القصة بهذا المنهج التقليدي إذ ليس من الضروري أن يكون لكل قصة عقد تتطلب الحل عند قوم كما أنه ليس من الضروري عند قوم أخرين أن يكون لكل قصة حل نهائي يتم به الفصل الأخير إذ أنه من الجائز فنيا لدي هؤلاء أن تظل النهاية مفتوحة غير منغلقة ليذهب كل قارئ في تصويرها كما يشاء فماذا نصنع إذا عمد ناقد في زمن ما إلي قصة قرآنية ليبحث عن خطواتها الثلاث محاولا اكتشافها ولم يهتد إلي خطوة منها قد يراه ناقد لاحق لا يقل عنه في مرتبته الفنية شيئا غير ذي بال
إن القصة القرآنية حينئذ ستكون جيدة عند ناقد دون ناقد وفق تطور مقاييسنا النقدية وبذلك تصبح القصة القرآنية ممتازة في عصر ومنحدرة في عصر سواه تبعا للمقاييس النقدية المتغيرةط
وهذا النقد الذى ذكره عطيه نقد صادق فلا يصح تطبيق قوانين اخترعها بشر على كلام الله لأن كلام الله نزل ليكون الحكم على كلام البشر وليس العكس كما قال تعالى :
"وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس"
وتحدث عطيه مرة أخرى عن نفس الخطأ فقال :
"إن القرآن كلام الله ومن عند الله هذه الحقيقة نحاها خلف الله جانبا وساق القرآن سوقا ودفعه دفعا إلي ساحة الفن وحكم فيه مقاييس الفن وأخذه بمعاييره كأي كلام أدبي يصدر من كاتب أو خطيب أو شاعر فقد استولت عليه هذه الدراسة الفنية للأدب العربي فخيل إليه أنه يستطيع أن يدخل بها علي القصص القرآني وأن يعرضه عرضا فنيا, فأخطأ المنهج وضل الطريق ..بل وأكثر من هذا ذهب إلي القول بوجود القصة الأسطورية في القصص القرآني ونسي أنه أمام نمط من القول لا يخضع لمقاييس فنيه تروج حينا وتكسد حينا آخر"
وتعرض عطيه لخطأ أخر في الكتاب وهو اعتراف خلف الله بوجود قصص أسطورية في القرآن فقال :
"فقد ذهب إلي نفي الصدق التاريخي في أخبار القرآن الكريم وقصصه ...وعلى ذلك فهو لا ينفي وجود القصة الأسطورية في القرآن الكريم ويعتبرها تجديدا في الحياة الأدبية المكية جاء به القرآن الكريم حين بنى القصص الدينى على بعض الأساطير
وليست له فى ذلك من الأدلة المقنعة ما يدعم رأيه فهو لم يعرض بصورة جلية نماذج من القصص القرآني الذى انتفت عنه الواقعية التاريخية ويثبت له خصائص القصة الأسطورية - إن كان لهذا النوع وجود في القرآن الكريم - بل اقتصر على القول بأن القرآن نفسه لم يحرص على أن ينفي وجود الأساطير فيه وإنما حرص على أن ينكر أن تكون هذه الأساطير هى الدليل على أنه من عند محمد (ص) وليس من عند الله فهو يقول "وإذا كان هذا ثابتا فإنا لا نتحرج من القول بأن فى القرآن أساطير لأنا في ذلك لا نقول قولا يعارض نصا من نصوص القرآن"
"وهنا نجد تعارضا ملموسا فى تصويره لموقف المفسرين مما يسميه المؤلف بالقصة الأسطورية في القرآن الكريم ويكفينا هنا أن نورد عبارتي المؤلف لتوضيح ذلك فهو يقول مرة "لم يقل واحد من المفسرين بوجود القصة الأسطورية فى القرآن الكريم بل على العكس نرى منهم كما نرى من بعض المحدثين نفورا من لفظ الأسطورة ومن القول بأنها فى القرآن ولو إلى حد ما" ثم يقول مرة أخرى "القصة الأسطورية إذا من القصص الأدبي الذى نجد من المفسرين من أجاز أن يكون موجودا فى القرآن الكريم"
هذا وقد استدل خلف الله على ذلك بآيات من القرآن الكريم تبين أن مشركي مكة وصفوا قصص القرآن الكريم بأنه أساطير الأولين
ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
1 - قوله تعالى " حتى إذا جآؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين"
2 - قوله تعالى "وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين"
3 - قوله تعالى "وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا"
4 - قوله تعالى "وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين"
وأنت ترى أن صاحب الفن القصصى حينما أراد أن يستدل على دعواه بهذه الآيات قطع بين الآية وما قبلها وما بعدها من آيات تتصل بموضوع المقولة التى يقولها الكفار في القرآن بأنه أساطير الأولين
ثم إن هذه المقولة "أساطير الأولين" لا يقصدون منها القصص القرآني وإنما يقصدون القرآن الكريم كله بل إنهم قالوا فى القرآن ما هو أكثر من هذا فلم اقتصر على هذه المقولة؟ قالوا في القرآن (فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر)
وقالوا في النبى (ص) (إنما يعلمه بشر) وقالوا في القرآن الكريم "بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون"
أليست هذه المقولات وأمثالها تصدر عن موقف واحد إزاء القرآن الكريم كله لا القصص وحده وانظر - مثلا - فى الآية الثالثة التي ذكرها فى استدلاله تجد أنها انتزعت انتزاعا من بين الآيات السابقة واللاحقة ومع أنك لو قرأتها فى سياقها منسجمة مع السابق واللاحق تجد - أنها ترد عليه ولا تؤيده اقرأ "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما"
أفيكون قولهم "إن هذا إلا إفك افتراه" ثم قولهم "أساطير الأولين اكتتبها" متجها إلى القصص القرآني أم إلى القرآن كله وهو الفرقان الذى جاء ذكره فى أول السورة
ثم إن الآية تحكي قول الذين كفروا فى ذلك ثم تعقب عليه بأن الذى أنزل هذا القرآن إنما هو الذي يعلم السر فى السماوات والأرض ولا شك أن ثبوت نسبة القرآن إلى الله تعالى ما ينفي عنه قطعا أن يكون فى قصصه أساطير وفى هذا أبلغ بيان فى نفي زعم الأسطورة عنه ..هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنه ينبغى تحديد المعنى المراد من قولهم "أساطير الأولين" فأساطير جمع الجمع لسطر وأسطر ومفرده سطر وهو الخط والكتابة ومنه قوله تعالى "كان ذلك فى الكتاب مسطورا" أى مكتوبا فيكون المعنى أن القرآن في زعمهم مما كتبه وسطره الأولون ويؤيد هذا أن الذين زعموا ذلك إنما هم المشركون من العرب
والعربي كان يتصور الأشياء كما يتوهم عقله الساذج ولكنه لا يخترع الأساطير حولها مهما كانت عنده هذه الأشياء غامضة معقدة
ومن هنا جاء قصصه بعيدا عن الخيالات التى تبدو فى أكثر القرآن الميثولوجي والأساطير الشعبية لدى الأمم الأخرى كأساطير اليونان والهنود والفراعنة فلم يكن العرب يعرفون الأسطورة بهذا المعنى حتى يحمل عليه ما حكاه القرآن عنهم"
إنه يكفينا فى الرد عليه قوله تعالى " إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد "
فإذا كان المضمون التاريخي فى القصص القرآني - كما يزعم - باطل فى الحقيقة ونفس الأمر ألا يكون هذا معارض معارضة صريحة لمضمون هذه الآية التى تنفي إمكان أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
وما قوله في قوله تعالى "ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون"
فقد رد الله تعالى على دعوى الافتراء بإثبات أنه هو الحق من الله فهل يتمشى مع منطق العقل أو أساليب البيان أن يكون حقا قد احتوى باطلا؟ وهل يصدق عليه وصف "الحق" حينئذ؟"
وقطعا أخطأ خلف الله فقد حمل مقولة الكفار على كونها صدق في اتهام القرآن بكونه أساطير ومن قال قولهم فقد كفر مثلهم فالقرآن بما فيه قصص هو كلام الله صدق ليس فيه كذب
ولو قال أن القرآن يحكى لنا بعض أساطير الكفار لصدق لأنه بالفعل يحكى بعض قصص الكفار الكاذبة مثل كون الملائكة بنات الله وكون عيسى ابن الله وكون الله ثالث ثلاثة
وتحدث عطيه عن كون قصص القرآن نوع من إعجاز الغيب الذى ما كان يعلمه البشر فقال :
"ثم نسأل المؤلف سؤلا إذا كان الأديب تلجئه الفكرة وضرورات الفن إلى مجاوزة الصدق فى رواية التاريخ فهل يجوز ذلك على الإعجاز القرآني؟ أليس في القرآن ما يدل على القصد إلى الإخبار التاريخي؟ وكيف يفسر المؤلف تلك الآيات التى يبدو فيها القصد إلي الإعجاز التاريخي واضحا مثل قوله تعالى "تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا "
قوله "نحن نقص عليك نبأهم بالحق "
قوله "تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق "
...وقوله تعالى " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون"
وبين أن خلف الله انتقد اختلاف عبارات القرآن في التعبير عن نفس القصة في سور متعددة فقال :
"هذه أسئلة لا نجد لها جوابا عند المؤلف فقد تكلف الأدلة الباطلة ليزعم أن اختلاف جزئيات القصة الواحدة فى عدة مواضع تفيد الانطلاق من تحري الصدق وهو غير صحيح لأننا لا نرى تعارضا بين هذا الاختلاف الجزئي وبين الصدق التاريخي فالتفصيلات كلها قد حدثت وإنما يختار القرآن ما يتصل بالمشهد التى ترد فيه "
واما اختلاف العبارات ففى الكثير من القصص تكرار الحادثة بلفظ مختلف وهو قليل هو تفسير لكلمة في القصة فمثلا قول تعالى:
"قال ألقوا فلما ألقوا "
نجد تفسير القول في سورة أخرى:
" قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم"
فالملقى في أية لم يذكر وفى آية أخرى ذكر فهو تفسير ومثلا نجد قوله :
"إنى آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو أتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون"
فسر الله الشهاب القبس بكونه جذوة من النار فقال في تفسير لها:
"إنى أنست نارا لعلى أتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون"
فالاختلاف في الغالب هو تفسير وأما في مواضع قليلة فهو ذكر لجزء لم يذكر في سورة سابقة
وتحدث عطيه عن تحكيم خلف الله للتاريخ في قصص القرى، فقال :
"وبالنظر في الآيات السابقة - وأمثالها كثير في القرآن - نجد أنها قد أثبتت أن القرآن الكريم كله حق نزل من عند الله تعالى وآياته كلها حق وقصصه كله حق لأن الله تعالى لا يقص إلا بالحق وهو يقص علينا قصة أهل الكهف بالحق ونبأ موسى وفرعون بالحق ووحيه كله حق وكتابه حق لا يصل إليه الافتراء والكذب بأي وجه من الوجوه كما قال تعالى "وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين"
إن الخطأ الذى وقع فيه خلف الله وأمثاله أنه حكم التاريخ فيما جاء فى القرآن الكريم من قصص وأخبار واعتمد عليه فلما رأي أن هناك بعض التعارض بين التاريخ والقرآن نفى الصدق التاريخى عن القرآن الكريم
وإنى لأحيل هؤلاء على ما كتبه العلامة ابن خلدون فى مطلع مقدمته المشهورة عن آفة التواريخ من خلط الحقائق بدسائس من الباطل "وهموا فيها وابتدعوها وزخارف من الروايات الضعيفة لفقوها ووضعوها واقتفي تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها وأدوها إلينا كما سمعوها"
فهذا إذن شأن كثير من التواريخ القديمة غير المنضبطة فهى تهمل وتنسى وتحرف وتخدع وتتوهم
وللأستاذ سيد قطب في هذا كلام يحسن أن أنقله على طوله ففيه خير وفائدة يقول:
إن الباحث المنصف - علي فرض أنه - لو نظر إلى القرآن الكريم وجرده من كل قداسة دينية ثم ينظر إليه كمصدر تاريخي بحت فماذا يجد؟؟ يجد أننا لا نملك كتابا آخر ولا أثرا تاريخيا آخر فى تاريخ البشرية كلها توافرت له أسباب التحقيق العلمى البحتة كما توفرت لهذا الكتاب
فإنه من البديهي أننا لا نملك فى إثبات صحة الحوادث التي تحدث عنها القرآن أو عدم صحتها إلا وسيلتين اثنتين ولكن واحدة منهما ليست قطعية وليس لها من قوة الثبوت ما للقرآن ...ومثل هذا التحقيق العلمي لم يتهيأ لكتاب آخر لا من الكتب المقدسة ولا من الكتب التاريخية ولا من الآثار التاريخية أيضا فالكتب المقدسة الأخرى قد انقضت فترات طويلة بين حياة أصحابها وعصر تدوينها ولم ترو بالإسناد الذى روى به القرآن والكتب التاريخية والآثار التاريخية لا ترتفع فوق مستوى الشبهات وليست هناك حادثة تاريخية واحدة فى تاريخ البشرية تعد يقينا علميا خالصا
إذن لا تجوز محاكمة القرآن - ككتاب تاريخي بحت - إلى أي كتاب تاريخي آخر أو أي سند تاريخي ليس له من قوة الثبوت ما لكتاب القرآن
والوسيلة الأخرى التى بين أيدينا هى العقل ..
هذا ومما تجدر الإشارة إليه أن القرآن الكريم جاء بلسان عربي مبين والشخصيات التى وردت فى قصصه لم يكن لسانها عربيا كنوح وإبراهيم وفرعون وأصحاب الكهف ويوسف وأخوته وامراة العزيز وكل الأنبياء وأقوامهم إلى غير ذلك من الشخصيات التى نطق عنها القرآن الكريم بلسان عربي مبين
ففرعون مثلا نطق عنه القرآن الكريم بمقولات كثيرة كقوله "ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين"
وقوله "وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى "
وقوله لموسي (ص)ممتنا عليه "قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين"
فإنه مما لا شك فيه أن فرعون لم ينطق بهذه الكلمات العربية وإنما الذى نطق به هو ما تحمله هذه الكلمات من معنى وكذلك كل ما نطق به الأنبياء وأقوامهم
وأكثر من هذا الجماد والحشرات والطير ينطقها القرآن الكريم بهذا اللسان العربي المبين قال تعالى "ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين"
وقال تعالى "حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون" والهدهد يقول لسيدنا سليمان "أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون"
والذى يجب أن يعلم في هذا أن القرآن الكريم في قصصه يحكي مقولات المتحاورين والمجادلين والناطقين فى الحدث الذى يقصه - يحيكها - كما هي فى مضمونها ومفهومها وإن جاءت بلسان غير لسانهم وبلغة غير لغتهم فالقرآن إذ يحكي عن قوم كانوا يتكلمون بالسريانية - مثلا - وينقل أقوالهم ومجادلاتهم فإنه يعرب عن معاني ألفاظهم ومضامين كلامهم باللغة العربية في ترجمة أمينة صادقة كاملة لا نقص فيها ولا زيادة وهى ترجمة دقيقة لا تحريف فيها ولا تبديل لأنها من خالق اللغات ومن العليم بدقائق الكون وأسرار الكائنات
وبهذا ترى أن القصص القرآني كله حق وصدق ولا مجال فيه للخيال والافتراء والأساطير وصدق الله إذ يقول "وبالحق أنزلناه وبالحق نزل"
وهذا النقل عن الآخرين بعضه مفيد وكان الأحرى بالقوم أن يناقشوا الأمر من الجهة الأخرى وهو كذب التاريخ فلو كان التاريخ صادقا ما تعددت رواياته وما تعددت الآثار التى يتم العثور عليها والتى تعطينا نتائج مختلفة فما يسمى مثلا بحجر رشيد وجدت نسخ متعددة منه وهى نسخ غير متفقة في عدد الكلمات وفى محتواها وفى ذلك قلت في كتابى حجر رشيد وكشف أسرار اللغة المصرية القديمة :
"مقارنة بين الألواح الثلاثة فى عدد السطور:
لوح كانوب 37 هيروغليفى 76 ديموطيقى 74 يونانى
لوح كوم الحصن26 هيروغليفى 20 ديموطيقى 64 يونانى
لوح رشيد14 هيرو غليفى 32 ديموطيقى 54 يونانى"
الغريب أنه رغم الاختلاف الكبير في عدد السطور وعدد الكلمات نجد بعض المؤرخين يصرون على أن الألواح الثلاثة متطابقة المعنى وهو كلام نفاه البعض الأخر ومن ثم فالأحجار تزور والآثار تزور والدليل أن ألواحنا التى يقال عنها مصرية لم يعثر عليها واحد من أهل مصر وإنما كلهم أجانب من الكفار والتاريخ قد يكون صحيحا لو أن بشر من كل الأقوام هم من اكتشفوا تلك الآثار وهم من ترجموها ولكن 99% من آثار العالم اكتشفها كفار من الغرب وترجمها كفار من الغرب
والكلام يطول في كذب التاريخ ولكن من يفهم سيقتنع من خلال اختلاف ألواح حجر رشيد حقيقة أن تاريخ العالم الحالى معظمه إن لم يكن كله مزور