اللغة العربية بين الأمس واليوم
مصطلح"اللغـة" في الدلالة اللغوية [1]، مشتق من "لغا"، اللغو واللغـا؛السقـط وما لا يعتد به من كلام وغيره، ولا يحصل منه على الفائـدة. ومصدرهاالأصلي "لغوة"على وزن "فعلة" من لغوت؛ إذا تكلمت.
وهـي فـي الاصطـلاح، ظـاهـرة اجتمـاعية يكتسبـها الإنسـان من المجتمع، قال:"ابن جني - ت 392هـ -": "أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم" [2].
فهذا المفهوم الذي وضعه أبو الفتح عثمان بن جني، يمدنا بمجموعة من المنطلقات المبدئية في حد"اللغة"، أولاها أن طبيعة اللغة أصوات، وثانيها إن وظيفتها الأساسية تتمثل في التبليغ والتواصل،وهي بالنسبة للفرد "وسيلته للتعبير عن مشاعره وعواطفه وإحساسا ته وما ينشأ في ذهنه من أفكار" [3]، وثالثها أن اللغة خاصية إنسانية ترتبط بالإنسان دون الحيوان؛ولذلك عدها "وليام ويتني" مؤسسة اجتماعية [4]، شأنها شأن باقي المؤسسات التي ينشئها أفراد المجتمع، باعتبارها "أداة اجتماعية يوجدها المجتمع للرمز إلى عناصر معيشته وطرق سلوكه" [5]، وتختلف اللغات باختلاف المجتمعات، فهي إذن من أخص مميزات الإنسان، حيث فطر على تلقيها من مجتمعه بدءا من طفولته. فلا كيان لها دون الأنام، فإن عاشوا عاشت وإن ماتوا ماتت، فاللغة ملك الأمة، وعنوان حضارتها؛ ولذا كانت من المقدسات؛ لأنها سجل حافل دونت فيه الأمة أحاسيسها الدينية ومآتيـها التاريخية، ومنجـزاتها العلمية، وبها عبر الشاعـر عن آمال أمته وآلامها.
والعربيـة من اللغـات السـامية القديمة الحية، ولكنها مع هذا القـدم لم تثبت أو تجمد على حـال وإنما سـايرت روح كل عصر، وعبرت عنـه بحيث أصبحت أنموذجـا في التواصل والعطاء من خلال مخزونها الذي لا ينفذ مع مرور الأيام، وإنما يتجدد هذا المخزون لكي يوائم ويساير متطلبات كل عصر، والدليل على ذلك أن القـارئ العربـي يستطيع أن يفهم اليوم ما كتب باللغة العربية منذ ألف وخمسمائة عام، في حين لا يستطيع القارئ الإنجليزي -مثلا – فهم اللغة التي كان يكتب بها " شكسبير" منذ حوالي أربعمائة عام فقط ، فلله ذر من قال بلسانها [6]:
وسعت كتاب الله لفظا وغاية
وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
وتنسيق أسماء لمخترعات؟
وإن من الحقائق التي لايمكن تجاهلها، هو أن كل أمة تعتز بنفسها وبوجودها، لابد لها أن تعتز بلغتها، ولا يوجد من ينكر أو يحرم على الآخرين من أن يعبروا عن مشاعرهم بلغتهم؛ لذلك فإن من أبشع أنواع السيطرة على الآخرين هو مصادرة مشاعرهم بمصادرة لغاتهم.
وعندما يتحدث الإنسان عن لغته، فإنه يحـاول بكل ما أوتي من العلم، وقـوة الحجـة أن يبرهن على أن لغته من أهم اللغات، وأنها لغة حية، وأنها لغة مقدسة إلى غير ذلك من النعوت التي يحاول سبغها عليها؛ لتحبيبها أو لترجيحها، أو للتغني بآصالها وخلودها ونحن معشر العرب يحق لنا الاعتزاز بلغتنا والاستشراف بانتمائنا إليها،فهي عنوان هويتنا وأهم رابطة بين الناطقين بالضاد، وهي أهم صلات الماضي بالحاضر والمستقبل، فلغتنا من أغزر اللغات مادة ، وأطوعها في تأليف الجمل وصياغة العبارات، وأنها لغة ثرية بالألفاظ والكلمات التي تناسب مدارك أبنائها، وهي أمتن تركيبا، وأوضح بيانا، وأعذب مذاقا عند أهلـها ، فالعلـم يزيـن بالعربيـة، قال عبد الله بن المبارك رضي الله عنه: "لا يقبل الرجل بنوع من العلوم ما لم يزين علمه بالعربية" [7].
ولكننا إذا نظرنا إلى حال لغتنا اليوم فإننا نجدها قد تقهقرت عن وضعها عما كانت عليه في العهود الغابرة، مقارنة بمثيلاتها من اللغات الأوروبية، ولعل مـن أسبـاب تخلفها عن اللحاق بركب اللغات العالمية – كالإنجليزية مثلا – سببه هو تلك الهـوة الواسعـة بين المجتمعات العربية، وإنجازات العلم ،والتكنولوجيا، والمعرفة بعامة.
أضف إلى ذلك أن الاعتمـاد على الأطـر الخشبية القديمة في تدريسـها له أكبـر الأثر في تخلفها، فطريقة التلقين على سبيل المثال لا الحصر، لم تعد ذات جدوى كمـا كانت عليه في العصـور السـابقة، حينما كان المعلم المصدر المبـاشر الذي تستقـى منه المعلومات، ومحور المعرفة، فقد تغيرت مفاهيم التدريس وطرائقه وأساليبه، وتعددت أيضا قنوات ومنافذ الحصـول على المعرفة العلمية .فإذا كـانت العربية قديمـا تعكس ما وصل إليه علماؤنا الأجلاء من تقدم علمي في شتـى المجـالات – إذ أثبتت مرونتها الفائقة من خلال التطـور الذي أصـاب مدلولات مفرداتها، وطرائـق التعبير عنـها إلى أن صارت في فتـرة وجيزة مـن نزول كتـاب العربية الأول (القرآن الكـريم) لغـة العلـوم العقلية، كالطب، والكيمياء، والرياضيات، والفلك … الخ. مثلما هي لغة العلوم النقلية، كالفقه، والكلام … الخ، وغدت لغة العلم الأولى التي لاتضاهيهـالغـة في القرون الوسطى ، وخلفت آثارا تشهد بعبقرية علمائها الذين عرفوا للغتهم قدرهـا فصعدوا بها جميعا كما صعدت بهم إلى عنان السمـاء – فهي اليوم ليست على أحسـن ما يرام؛ لما أصابها من سبات عميق ضرب على آذان أبنائها، حيث أصبحت تجابـه تحديا خطيرا بات يهدد كيانها ومكانتها الحضارية في اجتياز مرحلة هامة من مراحـل تطورها، مما يفرض علينا واجب حل مشكلاتها المزمنة والنهوض بها.
ويتوقف ذلك على مدى حسن استخدامنا للمنجزات العلمية في معالجـة قضـايا الدرس اللغوي التقليدية، ومسايرة قطار المدنية، من الناحيتين: النظرية والتطبيقية ، بعدما ظل مفهوم الأمية لدى المجتمعات المتقدمة مرادفا لجهل الأفراد في التفاعل مع ما توصل إليه العلم الحديث من اختراعات لمختلف الوسائل التقنية، كالكمبيوتر، والانترنيت …الخ. فالتقنية تمثل الأمل في التصدي لكل العقبات، لما لها من أهمية كبرى في تعزيز التعاون في مجال التعليمية، وفي إحداث التكامل بين الدراسات الاجتماعية والأدبية… فالكمبيوتر على سبيل المثال الذي ظهر في كنف اللغة الإنجليزية ، ونالت على إثره عناية أوفر بين لغات العالم المختلفة، من حيث المعالجة الآلية ،ساهم بقسط كبير في ذيوعها وانتشارهـا وكذا في تأصيل الصلة بين اللغـة وتكنولوجيـات المعلومـات التي كان لهـا الفضل في اكتشاف وتعميق جوانب التحليل اللغوي.
وعليه من الضروري إذا أردنا الارتقاء بلغتنا العربية، التي فيها من أسباب النمو ما يحفظ عليها شباب الدهر، ربطها بالتقنية الحديثة في شتى المجالات، في تدريسها، وفي ترجمة ومعالجة النصوص التراثية كما فعل اليهود [8] الذين خطوا خطوات واسعة جدا في مجال الترجمة الآلية بين اللغـات العالمية ولغتهم العبرية، خاصة وأن العربـية أثبتت أنـها من أكتر اللغات قابلية لاستعمال الكمبيوتر في معالجتها آليـا؛ لكونها تجمع بين كثيـر من الخصائص اللغوية المشتركة مع اللغات الأخرى،حيث تشتمل المعالجة الآلية للغة العربية على شقين أساسين:-الشق الأول-يشمل نظام البرمجة المستخدمة في المعالجة الآلية أو بواسطة الكمبيوتر، للفروع اللغوية المختلفة، مثل:
نظام الصرف الآلي الذي يقوم بتحليل الكلمات إلى عناصرها الاشتقاقية والتصريفية، أو يعيد تركيبها من هذه العناصر،مثل تحليل الكلمة،باعتبارها المادة الأساسية التي يبحث فيها علم الصرف
نظام الإعراب الآلي،ويتولى إعراب الجمل آليا،فعند كتابة أية جملة لغوية؛نريد إعرابها،نطلب من الجهاز تقديم مختلف الأوجه الإعرابية لها، وهذا لا يتأتى إلا بعد أن يقوم علماء العربية،وبخاصة النحاة بوضع برمجة آلية تخص مادة النحو العربي في الجهاز، وهذا بطبيعة الحال يتطلب تضافر الجهود من لدن الغيورين على العربية..
"نظام التحليل الدلالي الآلي الذي يستخلص معاني الكلمات استنادا إلى سياقها،ويحدد معاني الجمل استنادا إلى ما يسبقها وما يلحقها من جمل،وذلك علاوة على قواعد البيانات المعجمية والقواميس الإلكترونية ومنهجيات هندسة اللغة" [9]، ولعل هذا من الإشكالات التي ما يزال البحث فيها جاريا؛ للوصول إلى آلية حديثة،تمكن الجهاز من تحديد وشرح أي نص لغوي، وفق سياقه اللغوي، بحيث يصبح الكمبيوتر وسيلة مساعدة للباحث في تنقيح أبحاثه، شكلا ومعنى،وتركيبا،بل يصبح هو نفسه يقوم بإنجاز البحث أو المقال،وما علينا نحن سوى تقديم له المعلومات والأفكار، ليعطينا المقال أو النص جاهزا.
والشق الثاني- "يتضمن التطبيقات التي تقوم على النظم اللغوية الآية السابقة،والتي تشمل على سبيل المثال لا الحصر: الترجمة الآلية، والتدقيق الهجائي والنحوي، والفهرسة والاستخلاص الآلي، وفهم الكلام ونطقه آليا" [10].
وعليه فإن بعث العربية حية،لكي تكـون قادرة بحق على تحديات العولمة،يجب أن يقوم على ثلاثة أسس، أولاها:ضرورة العودة بها إلى أصالتها،فكل بناء جديد يجب أن يؤسس على أصل متين وتابت، وثانيها:إثبـات قدرة اللغة العربية على التفاعـل مع التجـربة العلمية العالمية الحديثة واستيعابها للحضـارة الغربية،قديما وحديثا، وثالثها:تفعيلها من أجل التعبير عن تطلعـات وآمـال الشعـوب العربية،بتحقيق وحدة قومية لها خصائصها ومقوماتها المتميزة، وعلى حكومـات الأمة العربية، أيضا، العناية بعلمائها وأدبائها وشعرائها، ورجال الفكر فيها، وسن ضوابط تلزم أبناء الوطـن، التعامل بها، وأية مخالفـة من لدن بعض المتفيهقين باللغـة الأجنبية تفرض عليهم غرامة مالية؛ومن تم تسيج العربية بسياج يقيها من عبث العابتين وشرود الشاردين، فيعلو شأنها.
مصطلح"اللغـة" في الدلالة اللغوية [1]، مشتق من "لغا"، اللغو واللغـا؛السقـط وما لا يعتد به من كلام وغيره، ولا يحصل منه على الفائـدة. ومصدرهاالأصلي "لغوة"على وزن "فعلة" من لغوت؛ إذا تكلمت.
وهـي فـي الاصطـلاح، ظـاهـرة اجتمـاعية يكتسبـها الإنسـان من المجتمع، قال:"ابن جني - ت 392هـ -": "أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم" [2].
فهذا المفهوم الذي وضعه أبو الفتح عثمان بن جني، يمدنا بمجموعة من المنطلقات المبدئية في حد"اللغة"، أولاها أن طبيعة اللغة أصوات، وثانيها إن وظيفتها الأساسية تتمثل في التبليغ والتواصل،وهي بالنسبة للفرد "وسيلته للتعبير عن مشاعره وعواطفه وإحساسا ته وما ينشأ في ذهنه من أفكار" [3]، وثالثها أن اللغة خاصية إنسانية ترتبط بالإنسان دون الحيوان؛ولذلك عدها "وليام ويتني" مؤسسة اجتماعية [4]، شأنها شأن باقي المؤسسات التي ينشئها أفراد المجتمع، باعتبارها "أداة اجتماعية يوجدها المجتمع للرمز إلى عناصر معيشته وطرق سلوكه" [5]، وتختلف اللغات باختلاف المجتمعات، فهي إذن من أخص مميزات الإنسان، حيث فطر على تلقيها من مجتمعه بدءا من طفولته. فلا كيان لها دون الأنام، فإن عاشوا عاشت وإن ماتوا ماتت، فاللغة ملك الأمة، وعنوان حضارتها؛ ولذا كانت من المقدسات؛ لأنها سجل حافل دونت فيه الأمة أحاسيسها الدينية ومآتيـها التاريخية، ومنجـزاتها العلمية، وبها عبر الشاعـر عن آمال أمته وآلامها.
والعربيـة من اللغـات السـامية القديمة الحية، ولكنها مع هذا القـدم لم تثبت أو تجمد على حـال وإنما سـايرت روح كل عصر، وعبرت عنـه بحيث أصبحت أنموذجـا في التواصل والعطاء من خلال مخزونها الذي لا ينفذ مع مرور الأيام، وإنما يتجدد هذا المخزون لكي يوائم ويساير متطلبات كل عصر، والدليل على ذلك أن القـارئ العربـي يستطيع أن يفهم اليوم ما كتب باللغة العربية منذ ألف وخمسمائة عام، في حين لا يستطيع القارئ الإنجليزي -مثلا – فهم اللغة التي كان يكتب بها " شكسبير" منذ حوالي أربعمائة عام فقط ، فلله ذر من قال بلسانها [6]:
وسعت كتاب الله لفظا وغاية
وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
وتنسيق أسماء لمخترعات؟
وإن من الحقائق التي لايمكن تجاهلها، هو أن كل أمة تعتز بنفسها وبوجودها، لابد لها أن تعتز بلغتها، ولا يوجد من ينكر أو يحرم على الآخرين من أن يعبروا عن مشاعرهم بلغتهم؛ لذلك فإن من أبشع أنواع السيطرة على الآخرين هو مصادرة مشاعرهم بمصادرة لغاتهم.
وعندما يتحدث الإنسان عن لغته، فإنه يحـاول بكل ما أوتي من العلم، وقـوة الحجـة أن يبرهن على أن لغته من أهم اللغات، وأنها لغة حية، وأنها لغة مقدسة إلى غير ذلك من النعوت التي يحاول سبغها عليها؛ لتحبيبها أو لترجيحها، أو للتغني بآصالها وخلودها ونحن معشر العرب يحق لنا الاعتزاز بلغتنا والاستشراف بانتمائنا إليها،فهي عنوان هويتنا وأهم رابطة بين الناطقين بالضاد، وهي أهم صلات الماضي بالحاضر والمستقبل، فلغتنا من أغزر اللغات مادة ، وأطوعها في تأليف الجمل وصياغة العبارات، وأنها لغة ثرية بالألفاظ والكلمات التي تناسب مدارك أبنائها، وهي أمتن تركيبا، وأوضح بيانا، وأعذب مذاقا عند أهلـها ، فالعلـم يزيـن بالعربيـة، قال عبد الله بن المبارك رضي الله عنه: "لا يقبل الرجل بنوع من العلوم ما لم يزين علمه بالعربية" [7].
ولكننا إذا نظرنا إلى حال لغتنا اليوم فإننا نجدها قد تقهقرت عن وضعها عما كانت عليه في العهود الغابرة، مقارنة بمثيلاتها من اللغات الأوروبية، ولعل مـن أسبـاب تخلفها عن اللحاق بركب اللغات العالمية – كالإنجليزية مثلا – سببه هو تلك الهـوة الواسعـة بين المجتمعات العربية، وإنجازات العلم ،والتكنولوجيا، والمعرفة بعامة.
أضف إلى ذلك أن الاعتمـاد على الأطـر الخشبية القديمة في تدريسـها له أكبـر الأثر في تخلفها، فطريقة التلقين على سبيل المثال لا الحصر، لم تعد ذات جدوى كمـا كانت عليه في العصـور السـابقة، حينما كان المعلم المصدر المبـاشر الذي تستقـى منه المعلومات، ومحور المعرفة، فقد تغيرت مفاهيم التدريس وطرائقه وأساليبه، وتعددت أيضا قنوات ومنافذ الحصـول على المعرفة العلمية .فإذا كـانت العربية قديمـا تعكس ما وصل إليه علماؤنا الأجلاء من تقدم علمي في شتـى المجـالات – إذ أثبتت مرونتها الفائقة من خلال التطـور الذي أصـاب مدلولات مفرداتها، وطرائـق التعبير عنـها إلى أن صارت في فتـرة وجيزة مـن نزول كتـاب العربية الأول (القرآن الكـريم) لغـة العلـوم العقلية، كالطب، والكيمياء، والرياضيات، والفلك … الخ. مثلما هي لغة العلوم النقلية، كالفقه، والكلام … الخ، وغدت لغة العلم الأولى التي لاتضاهيهـالغـة في القرون الوسطى ، وخلفت آثارا تشهد بعبقرية علمائها الذين عرفوا للغتهم قدرهـا فصعدوا بها جميعا كما صعدت بهم إلى عنان السمـاء – فهي اليوم ليست على أحسـن ما يرام؛ لما أصابها من سبات عميق ضرب على آذان أبنائها، حيث أصبحت تجابـه تحديا خطيرا بات يهدد كيانها ومكانتها الحضارية في اجتياز مرحلة هامة من مراحـل تطورها، مما يفرض علينا واجب حل مشكلاتها المزمنة والنهوض بها.
ويتوقف ذلك على مدى حسن استخدامنا للمنجزات العلمية في معالجـة قضـايا الدرس اللغوي التقليدية، ومسايرة قطار المدنية، من الناحيتين: النظرية والتطبيقية ، بعدما ظل مفهوم الأمية لدى المجتمعات المتقدمة مرادفا لجهل الأفراد في التفاعل مع ما توصل إليه العلم الحديث من اختراعات لمختلف الوسائل التقنية، كالكمبيوتر، والانترنيت …الخ. فالتقنية تمثل الأمل في التصدي لكل العقبات، لما لها من أهمية كبرى في تعزيز التعاون في مجال التعليمية، وفي إحداث التكامل بين الدراسات الاجتماعية والأدبية… فالكمبيوتر على سبيل المثال الذي ظهر في كنف اللغة الإنجليزية ، ونالت على إثره عناية أوفر بين لغات العالم المختلفة، من حيث المعالجة الآلية ،ساهم بقسط كبير في ذيوعها وانتشارهـا وكذا في تأصيل الصلة بين اللغـة وتكنولوجيـات المعلومـات التي كان لهـا الفضل في اكتشاف وتعميق جوانب التحليل اللغوي.
وعليه من الضروري إذا أردنا الارتقاء بلغتنا العربية، التي فيها من أسباب النمو ما يحفظ عليها شباب الدهر، ربطها بالتقنية الحديثة في شتى المجالات، في تدريسها، وفي ترجمة ومعالجة النصوص التراثية كما فعل اليهود [8] الذين خطوا خطوات واسعة جدا في مجال الترجمة الآلية بين اللغـات العالمية ولغتهم العبرية، خاصة وأن العربـية أثبتت أنـها من أكتر اللغات قابلية لاستعمال الكمبيوتر في معالجتها آليـا؛ لكونها تجمع بين كثيـر من الخصائص اللغوية المشتركة مع اللغات الأخرى،حيث تشتمل المعالجة الآلية للغة العربية على شقين أساسين:-الشق الأول-يشمل نظام البرمجة المستخدمة في المعالجة الآلية أو بواسطة الكمبيوتر، للفروع اللغوية المختلفة، مثل:
نظام الصرف الآلي الذي يقوم بتحليل الكلمات إلى عناصرها الاشتقاقية والتصريفية، أو يعيد تركيبها من هذه العناصر،مثل تحليل الكلمة،باعتبارها المادة الأساسية التي يبحث فيها علم الصرف
نظام الإعراب الآلي،ويتولى إعراب الجمل آليا،فعند كتابة أية جملة لغوية؛نريد إعرابها،نطلب من الجهاز تقديم مختلف الأوجه الإعرابية لها، وهذا لا يتأتى إلا بعد أن يقوم علماء العربية،وبخاصة النحاة بوضع برمجة آلية تخص مادة النحو العربي في الجهاز، وهذا بطبيعة الحال يتطلب تضافر الجهود من لدن الغيورين على العربية..
"نظام التحليل الدلالي الآلي الذي يستخلص معاني الكلمات استنادا إلى سياقها،ويحدد معاني الجمل استنادا إلى ما يسبقها وما يلحقها من جمل،وذلك علاوة على قواعد البيانات المعجمية والقواميس الإلكترونية ومنهجيات هندسة اللغة" [9]، ولعل هذا من الإشكالات التي ما يزال البحث فيها جاريا؛ للوصول إلى آلية حديثة،تمكن الجهاز من تحديد وشرح أي نص لغوي، وفق سياقه اللغوي، بحيث يصبح الكمبيوتر وسيلة مساعدة للباحث في تنقيح أبحاثه، شكلا ومعنى،وتركيبا،بل يصبح هو نفسه يقوم بإنجاز البحث أو المقال،وما علينا نحن سوى تقديم له المعلومات والأفكار، ليعطينا المقال أو النص جاهزا.
والشق الثاني- "يتضمن التطبيقات التي تقوم على النظم اللغوية الآية السابقة،والتي تشمل على سبيل المثال لا الحصر: الترجمة الآلية، والتدقيق الهجائي والنحوي، والفهرسة والاستخلاص الآلي، وفهم الكلام ونطقه آليا" [10].
وعليه فإن بعث العربية حية،لكي تكـون قادرة بحق على تحديات العولمة،يجب أن يقوم على ثلاثة أسس، أولاها:ضرورة العودة بها إلى أصالتها،فكل بناء جديد يجب أن يؤسس على أصل متين وتابت، وثانيها:إثبـات قدرة اللغة العربية على التفاعـل مع التجـربة العلمية العالمية الحديثة واستيعابها للحضـارة الغربية،قديما وحديثا، وثالثها:تفعيلها من أجل التعبير عن تطلعـات وآمـال الشعـوب العربية،بتحقيق وحدة قومية لها خصائصها ومقوماتها المتميزة، وعلى حكومـات الأمة العربية، أيضا، العناية بعلمائها وأدبائها وشعرائها، ورجال الفكر فيها، وسن ضوابط تلزم أبناء الوطـن، التعامل بها، وأية مخالفـة من لدن بعض المتفيهقين باللغـة الأجنبية تفرض عليهم غرامة مالية؛ومن تم تسيج العربية بسياج يقيها من عبث العابتين وشرود الشاردين، فيعلو شأنها.