ما زلنا أخواني الأحبة في رحاب محاضرات العلامة الدكتور ماهر الفحل، وفي هذه المحاضرة سنتناول الحديث الحسن
بسم الله نبدأ
الحديث الحسن: وسطٌ بين الصحيح والضعيف، قال ابن القطّان في " بيان الوهم والإيهام " *1118*: ** الحسن معناه الذي له حال بين حالي الصحيح والضعيف ** وبنحوه قال عقيب * 1173 * . وقال عقيب * 1432 * : ** ونعني بالحسن : ما له من الحديث منْزلة بين منْزلتي الصحيح والضعيف ، ويكون الحديث حسناً هكذا ؛ إما بأن يكون أحد رواته مختلفاً فيه ، وثقّه قوم وضعّفه آخرون ، ولا يكون ما
ضعّف به جرحاً مفسراً ، فإنّه إن كان مفسراً قدّم على توثيق من وثّقه ، فصار به الحديث ضعيفاً ** ؛ ولما كان كذلك عَسُر على أهل العلم تعريفه .
قال الحافظ ابن كثير : ** وذلك لأنّه أمر نسبيٌ ، شيءٌ ينقدح عند الحافظ ، ربّما تقصر عبارته عنه ** *اختصار علوم الحديث : 37* .
وقال ابن دقيق العيد : ** وفي تحرير معناه اضطرابٌ ** . * الاقتراح : 162 * .
وذلك لأنّه من أدق علوم الحديث وأصعبها ؛ لأنّ مداره على من اخُتلف فيه ، وَمَن وهم في بعض ما يروي . فلا يتمكن كل ناقدٍ من التوفيق بين أقوال المتقدّمين أو ترجيح قولٍ على قولٍ إلا من رزقه الله علماً واسعاً بأحوال وقواعد هذا الفن ومعرفةٍ قوية بعلم الجرح والتعديل ، وأمعن في النظر في كتب العلل ، ومارس النقد والتخريج والتعليل عمراً طويلاً ، ومارس كتب الجهابذة النقاد حتى اختلط بلحمه ودمه ، وعرف المتشددين والمتساهلين من المتكلمين في الرجال ، ومن هم وسطٌ في ذلك ؛ كي لا يقع فيما لا تحمد عقباه ؛ ولذلك قال الحافظ الذهبي : ** ثم لا تطمع بأن للحسن قاعدةً تندرج كل الأحاديث الحسان فيها ؛ فأنا على إياسٍ من ذلك ، فكم من حديثٍ تردد فيه الحفاظ هل هو حسنٌ أو ضعيفٌ أو صحيحٌ ؟ ** .
* الموقظة : 28 * .
وللحافظ ابن حجر محاولةٌ جيّدةٌ في وضعه تحت قاعدة كليةٍ فقد قال في النخبة : ** وخبر الآحاد بنقل عدلٍ تامّ الضبط ، متصل السند غير معللٍ ولا شاذٍ : هو الصحيح لذاته ... فإن خفّ الضبط ، فالحسن لذاته ** . * النخبة 29 ، 34 * .
وهي محاولةٌ جيدةٌ . وقد مشى أهل المصطلح على هذا من بعده . وحدّوا الحسن لذاته : بأنه ما اتصل سنده بنقل عدلٍ خف ضبطه من غير شذوذٍ ولا علةٍ ** . وشرط الحسن لذاته نفس شرط الصحيح ، إلا أنّ راوي الصحيح تامّ الضبط ، وراوي الحسن لذاته خفيف الضبط . وسمّي حسناً لذاته ؛ لأنّ حسنه ناشئ عن توافر شروط خاصّة فيه ، لا نتيجة شيء خارج عنه.
وقد تبين لنا : أنَّ راوي الحسن لذاته هو الراوي الوسط الذي روى جملة من الأحاديث ، فأخطأ في بعض ما روى ، وتوبع على أكثر ما رواه ؛ فراوي الحسن : الأصل في روايته المتابعة والمخالفة ، وهو الذي يطلق عليه الصدوق ، لأنّ الصدوق هو الذي يهم بعض الشيء فنزل من رتبة الثقة إلى رتبة الصدوق . فما أخطأ فيه وخولف فيه فهو من ضعيف حديثه ، وما توبع عليه ووافقه من هو بمرتبته أو أعلى فهو من صحيح حديثه . أما التي لم نجد لها متابعة ولا شاهداً فهي التي تسمّى بـ * الحسان * ؛ لأنّا لا ندري أأخطأ فيها أم حفظها لعدم وجود المتابع والمخالف ؟
وقد احتفظنا بهذه الأحاديث التي لم نجد لها متابعاً ولا مخالفاً وسمّيناها حساناً ؛ لحسن ظننا بالرواة ؛ ولأنّ الأصل في رواية الراوي عدم الخطأ ، والخطأ طارئٌ ؛ ولأنّ الصدوق هو الذي أكثر ما يرويه مما يتابع عليه . فجعلنا ما تفرد به من ضمن ما لم يخطأ فيه تجوزاً ؛ لأنَّ ذلك هو غالب حديثه ، ولاحتياجنا إليه في الفقه . وبمعنى هذا قول الخطّابي : ** ... وهو الذي يقبله أكثر العلماء ويستعمله عامة الفقهاء ** .
ولا بأس أن نحد ذلك بنسبة مئوية فكأنّ راوي الحسن من روى – مثلاً لا حصراً – مائتي حديث ، فأخطأ في عشرين حديثاً وتوبع في ثمانين . فالعشرون التي أخطأ فيها من ضعيف حديثه . والثمانون التي توبع عليها من صحيح حديثه . أما المائة الأخرى وهي التي لم نجد لها متابعاً ولا مخالفاً فهي من قبيل * الحسن * . ومن حاله كهذا : عاصم بن أبي النجود ، فقد روى جملة كثيرة من الأحاديث فأخطأ في بعض وتوبع على الأكثر فما وجدنا له به متابعاً فهو صحيح ، وما وجدنا له به مخالفاً أوثق منه عدداً أو حفظاً فهو من ضعيف حديثه. وما لم نجد له متابعاً ولا مخالفاً فهو *حسن*. وممن حاله كحال عاصم : ** عبيدة بن حميد الكوفي ، وسليمان بن عتبة وأيوب ابن هانئ ، وداود بن بكر بن أبي الفرات ، ومحمد بن عمرو بن علقمة، والحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب، ويونس بن أبي إسحاق ، وسماك بن حرب**.
وهذا الرأي وإن كان بنحو ما انتهى إليه الحافظ ابن حجر العسقلاني إلا أننا لم نجد من فصّله هكذا . وهو جدير بالقبول والتداول بين أهل العلم . وقد يتساءل إنسانٌ بأن من قيل فيهم : صدوق أو حسن الحديث قد اختلف المتقدمون في الحكم عليهم تجريحاً وتعديلاً . وجواب ذلك : أنّ الأئمة النقاد قد اطّلعوا على ما أخطأ فيه الراوي وما توبع عليه فكأنَّ المُجَرِّح رأى أن ما خولف فيه الراوي هو الغالب من حديثه ، والمُعَدِّل كذلك رأى أن ما توبع عليه هو غالب حديثه فحكم كلٌّ بما رآه غالباً ، غير أنا نعلم أنَّ فيهم متشددين يغمز الراوي بالجرح وإن كان خطؤه قليلاً ، ومنهم متساهلين لا يبالي بكثرة الخطأ ، وعند ذلك يؤخذ بقول المتوسطين المعتدلين .
ولذا نجد الحافظ ابن عدي في الكامل ، والإمام الذهبي في الميزان يسوقان أحياناً ما أنكر على الراوي الوسط ثم يحكمان بحسن رواياته الأخرى ، والله أعلم .
وعلى هذا فالحديث الحسن : ما رواه عدل خف ضبطه عن مثله إلى منتهاه ولم يكن شاذاً ولا معلاً . وهذا هو الحسن لذاته . وهو يستوفي نفس شروط الصحيح خلا الضبط فراوي الصحيح تام الضبط وراوي الحسن خفيف الضبط .
أما الحسن لغيره : فهو الحديث الضعيف الذي تقوى بمتابعة أو شاهد .
مثال الحسن لذاته : حديث محمد بن عمرو السابق ، لو لم يتابع لكان سند الحديث حسناً لذاته فلما توبع ارتقى إلى الصحيح لغيره .
ومثاله أيضاً ما رواه الترمذي في شمائل النبي * * 237 * ، قال : حدثنا عباس بن محمد الدُّوري ، قال : حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، قال : أنبأنا عبد الله بن المبارك ، عن أسامة بن زيد ، عن سعيد المَقْبُري ، عن أبي هريرة ، قال : قالوا : يا رسول الله ، إنك تداعبنا . قال : ** إني لا أقولُ إلا حقاً ** .
وهذا حديثٌ حسنٌ لذاته من أجل أسامة بن زيد الليثي فهو خفيف الضبط ، وهو صدوقٌ حسن الحديث .
أما الحسن لغيره فمثاله : فمثاله ما رواه الترمذي في شمائل النبي * * 247 * قال : حدثنا علي بن حُجْر ، قال : حدثنا شَرِيك ، عن سِماك بن حرب ، عن جابر بن سَمُرة ، قال : جالستُ النبيَّ * أكثر من مئة مرة وكان أصحابه يتناشدونَ الشِّعْرَ ويتذاكرون أشياءَ من أمر الجاهلية ، وهو ساكتٌ وربما تَبَسَّمَ معهم .
فهذا حديثٌ حسنٌ لغيره ؛ فإن شريك بن عبد الله ضعيفٌ عند التفرد بسبب سوء حفظه ، لكن تابعه في هذا الحديث زهير أبو خيثمة فارتقى حديثه هذا من حيز الضعف إلى درجة الحسن
مظان الحديث الحسن :
كثيرٌ من كتب الحديث هي مظان الحديث الحسن ، ومنها : سنن أبي داود وجامع الترمذي ، وقد أكثر الترمذي من ذكره ، وقد ظن بعضهم أنَّ كل حديثٍ سكت عنه أبو داود فهو حديثٌ حسن أو صحيح ، وهذا خطأ وقد اعتمدوا في ذلك على ما نسبه بعضهم لأبي داود : ** وما سكت عنه فهو حسن ** وهذا لم يصح عن أبي داود إنما قال أبو داود : ** ذكرتُ في كتابي هذا الصحيح وما يشابهه وما يقاربه وما كان في كتابي من حديثٍ فيه وهنٌ شديدٌ فقد بينته ، وما لم أذكر فيه شيئاً فهوصالح ** وكلمة صالح تشمل صلاحية الاحتجاج وصلاحية الاعتبار ، ويستفاد من قوله : ** وهن شديد ** أن ما كان وهناً يسيراً لا يبينه ، ثم إنه يضعف راوياً فإذا تكرر في حديثٍ آخر يسكت عنه لسبقه الكلام عنه ، ثم إنَّ روايات السنن مختلفة وفي بعضها من الكلام على الأحاديث والرواة ما لا يوجد في الأخرى ، وأبو عبيد الآجري في سؤالاته ينقل تضعيف أبي داود لبعض الأحاديث، وهو قد سكت عنها في السنن .