قراءة فى كتاب أحكام الصلاة على الجنازة في المسجد
الكتاب تصنيف زين الدين قاسم بن قطلوبغا الحنفي المتوفى سنة 879 هـ وسبب تأليفه كما قال :
"قد ظن بعض الناس من صلاة شيخ الإسلام سعد الدين الديري على إبراهيم بن الجيهان في الجامع الأزهر أنه لا كراهة لذلك عندنا وأنه لا معنى لتركه لذلك وصلاتي على بعض الناس في الرحاب فسألني فقلت: المنقول المنع"
وبعد أن قال الحكم نقل أدلته من كتب الحنفية فقال :
"قال الإمام محمد بن الحسن في موطئه :
لا يصلى على جنازة في مسجد، وقال الإمام الطحاوي في معاني الآثار: النهي عن الصلاة في المسجد وكراهتها هو قول أبي حنيفة ومحمد، وهو قول أبي يوسف أيضا غير أن أصحاب الإملاء رووا عنه أنه قال:
إذا كان مسجد أفرد للصلاة على الجنازة فيه يصلى على الجنازة فيه فلا بأس
وقول صاحب الهداية في مختارات النوازل:
ولا يصلى صلاة الجنازة في مسجد يصلى فيه الجماعة عندنا للحدث وسواء كان الميت في المسجد، أو خارجا منه في ظاهر الرواية، وفي رواية: إذا كان الميت خارج المسجد لا يكره، وقال في المحيط : وتركه صلاة الجنازة في المسجد خلافا للشافعي، والصحيح قولنا لما روي صلى الله عليه وسلم قال:
"من صلى على الجنازة في المسجد فلا شيء له"
ولأن تنزيه المسجد واجب وفي إدخال المسجد الميت احتمال وقوع النجاسة فيه فيكره كما يكره إدخال الصبي والمجنون المسجد ؛ لأنه لا يؤمن من تلويث المسجد فكذا هذا"
هنا سبب عدم إدخال الميت المسجد هو الخوف من تلويث المسجد بالنجاسة وهو ما يناقض كون الميت يغسل ويتم سد أحد المخرجين بقطن أو ما شابهه كما أن الميت لا يمكن أن يخرج ريحا أو برازا او بولا لأن جسمه يتوقف عن العمل
وقد ذكر قطلوبغا صورة من حيل الناس وهو وضع الميت خارج المسجد والصلاة عليه داخل المسجد أو بعض المصلين داخل المسجد وبعضهم خارجه فقال :
"ولو وضعت الجنازة خارج المسجد والإمام خارج المسجد ومعه صف والباقي في المسجد، اختلفوا فيه فقيل: لا تكره الصلاة عليه، وهكذا روي عن أبي يوسف في النوازل أنه ليس له فيه احتمال تلويث المسجد، وقيل يكره؛ لأن المسجد أعد لأداء المكتوبات فلا يقام فيه غيرها قصدا إلا بعذر، وقال في شرح القدوري المسمى بالمضمرات في قوله: ولا يصلى على ميت في مسجد جماعة: يكره أن يصلى على الميت في المسجد سواء كانت الجنازة في المسجد أو هي خارج المسجد والإمام في المسجد، وفي النسفية : سئل عن صلاة الجنازة وهي خارج والناس في المسجد هل يكره، فقال: كان المشايخ أهل سمرقند لا يكرهون ذلك ويصلون في المسجد والجنازة على باب المسجد حتى ورد عليهم السيد أبو شجاع فرأى منهم ذلك فقال: ما لكم تصلون على الجنازة في المسجد، قالوا: إن مشايخنا أجازوا ذلك، قال: قد يقدمهم مشايخ أخر لم يجوزوه، قالوا: ومن هم، قال إمام الأئمة أبو حنيفة ومن تبعه ونصوا على كراهة ذلك في كتبهم فاتفقوا على أن بنوا وراء المقصورة سقيفة بوضع الميت فيها وصفوف من الناس في هذه السقيفة ثم يتصل منه الصفوف التي في الجامع، قال: فالحاصل أن إدخال الجنازة في المسجد والصلاة عليها في المسجد مكروه عندنا، وفي وضع الجنازة على باب المسجد والإمام والقوم في المسجد اختلاف المشايخ ووضع الجنازة خارج المسجد وقيام الناس معه خارج المسجد ثم اتصال الصفوف بهم غير مكروه، وأما الحجاج فقال محمد في الموطأ ثنا مالك ثنا نافع عن ابن عمر أنه ما صلى على عمر إلا في المسجد وقال محمد: لا يصلى على جنازة في المسجد ، وكذلك بلغنا عن أبي هريرة وموضع الجنازة بالمدينة خارج المسجد، وهو الموضع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى على الجنازة فيه ، فأفاد أن عمل النبي صلى الله عليه وسلم كان على خلاف ما وقع في الصلاة على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فيحمل على العذر، وبه قال في المحيط، ولفظه: فلا يقام فيه - أي المسجد - غيرها - أي غير الصلاة - تعبدا إلا لعذر وهذا تأويل حديث عمر أنه لما قتل صلى عليه في المسجد كأنه كان لعذر وهو خوف الفتنة والصد عن الدفن عند النبي صلى الله عليه وسلم"
الرجل هنا يكره التحايل على الحكم الذى يظن أنه صحيح طبقا لرأى أصحاب المذهب والغريب فى المسألة هو أن الروايات فى الموضوع متناقضة فهو روى الرواية المحرمة لصلاة الجنازة فى المسجد ثم ذكر الرواية المناقضة لها فقال :
"وروى الإمام الطحاوي عن عائشة أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص قالت: أدخلوا به المسجد حتى أصلي عليه فأنكر ذلك الناس عليها فقالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء في المسجد " قال: فذهب قوم إلى هذا الحديث فقالوا: لا بأس بالصلاة على الجنازة في المساجد، واحتجوا أيضا بما روي عن ابن عمر أن عمر صلى عليه في المسجد ، وخالفهم في ذلك آخرون فكرهوا الصلاة على الجنائز في المساجد، واحتجوا بما حدثنا إلخ فروى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من صلى على جنازة في مسجد فلا شيء له"
وللخروج من التناقض فى الحكم ذكر أن هناك ناسخ ومنسوخ فى المسألة فقال:
" فلما اختلفت الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب نظرنا في ذلك لنعلم المتأخر من الحديثين فنجعله ناسخا للمتقدم منهما، فوجدنا حديث عائشة دليلا على أنهم كانوا تركوا الصلاة على الجنائز في المسجد بعد أن كانت تفعل فيه وارتفع ذلك من فعلهم، وذهب معرفته عن عائشة فلم يكن ذلك عندها لكراهية حدثت بل كان الأمر عندها على أنهم كانوا يصلون عليها في المسجد لو شاءوا، لذلك أمرت به حتى أنكر ذلك الناس عليها وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلمهم بما غاب عنها فبان بذلك أن الإباحة للصلاة عليها في المسجد هي المتقدمة على ما في حديث عائشة من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهل بن البيضاء في المسجد وأن الترك للصلاة عليها في المسجد هو المتأخر عن ذلك على ما في حديث أبي هريرة وأن حديث أبي هريرة ناسخ لحديث عائشة ، وهذا الذي ذكرناه من النهي عن الصلاة على الجنائز في المسجد وكراهيتها هو قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول أبي يوسف أيضا غير أن أصحاب الإملاء رووا عنه أنه قال: إذا كان مسجد قد أفرد للصلاة على الجنائز فلا بأس أن يصلى على الجنائز فيه "
وحكاية الناسخ والمنسوخ لا يمكن هنا الاستدلال تاريخيا على وجودها فإن كان أبو هريرة كما هو معروف قدم المدينة فى سنة 8 هـ فإن سهيل بن بيضاء توفى فى سنة 9 هـ ومن ثم لا يمكن تحديد متى قال أبو هريرة حديثه فى سنة 8 أو 9 أو 10 أو 11 هـ ومن ثم فمعرفة الناسخ من المنسوخ فى المسألة محالة من كتب الروايات
ثم ذكر قطلوبغا مسألة حكم مسجد الجنازة وهو بناء أو مكان لا يصلى فيه شىء سوى على الموتى فنقل التالى:
" وما نقله عن أبي يوسف قال في المحيط: اختلفوا هل له حكم المسجد، والصحيح أنه ليس بمسجد؛ لأنه ما أعد للصلاة حقيقة؛ لأن صلاة الجنازة ليست بصلاة حقيقة، ولهذا يجوز إدخاله الميت فيه وحاجة الناس ماسة إلى أنه لم يكن مسجدا توسعة للأمر عليهم انتهى وقال الإمام أبو الحسين القدوري في التجريد: قال أصحابنا: تكره الصلاة على الموتى في مسجد الجماعة، وقال الشافعي: يجوز لنا "
والكلام عن كون صلاة الجنازة ليست صلاة كالصلوات المفروضة صحيح فصلاة الجنازة ليست سوى الدعاء للميت سواء بالاستغفار أو بطلب الرحمة أو أى دعوة تطلب دخوله الجنة وهى تماثل الصلاة على المتصدقين الأحياء فى قوله تعالى "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم"
فهذه الصلاة هى على الناس كما قال تعالى فى صلاة الجنازة :
"ولا تصل على أحد منهم مات ابدا ولا تقم على قبره"
إذا صلاة الجنازة ليست سوى دعاء للميت كما فى الحديث الذى رواه البخارى:
1327 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِى سَلَمَةَ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ نَعَى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّجَاشِىَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ ، يَوْمَ الَّذِى مَاتَ فِيهِ فَقَالَ « اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ »
والغريب أن صلاة الجنازة التى تصلى ليس فيها رواية واحدة تذكر ما يفعله الناس حاليا من قراءة الفاتحة والتشهد أو الصلاة على إبراهيم(ص) ومحمد(ص) وآلهما والدعاء للميت والدعاء للمصلين فالمذكور هو أربعة تكبيرات أو خمسة وقراءة الفاتحة والتشهد فقط أو قراءة الفاتحة فقط
والغريب أن رغم كون رواية البخارى السابقة توافق القرآن فى كونها دعاء فقط بالاستغفار للميت فإنه روى فى نفس الحادثة روايات مناقضة وهى التكبير مثل :
1333 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَعَى النَّجَاشِىَّ فِى الْيَوْمِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ ."
ومن ثم فصلاة الجنازة فى المسجد أمر بلا دليل من الوحى فطبقا لقوله تعالى تكون الصلاة بعد الدفن فى القبر لقوله تعالى "ولا تقم على قبره" ويوافقه ما رواه أبو داود فى سننه:
3223 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِىُّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَحِيرٍ عَنْ هَانِئٍ مَوْلَى عُثْمَانَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ « اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ بَحِيرُ بْنُ رَيْسَانَ."
وقد استكمل قطلوبغا كلامه مكررا ما قاله سابقا عن تلويث المسجد فقال:
"حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى على ميت في المسجد فلا شيء له" ذكره أبو داود ، قلت: ورواه عن ابن أبي شيبة بلفظ: "من صلى على جنازة في المسجد فلا صلاة له" ، قال : وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ضاق بهم المكان رجعوا ولم يصلوا، وسيأتي له لفظ آخر والله أعلم، قال: ولا يقال أنه متروك الظاهر لأننا اجتمعنا على استحقاقه الثواب بسقوط الفرض؛ لأن الفرض وإن سقط فيجوز أن لا يحصل له الثواب وسقوط الفرض لا يوصف أنه له من غير فوات ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نعى النجاشي إلى أصحابه خرج فصلى عليه في المصلى ، ولو كان تجوز الصلاة في المسجد لم يكن للخروج معنى ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم " وكان المعنى فيه أنه لا يؤمن تلويث المسجد منهم، وهذا موجود في الميت"
وكرره كلامه عن الناسخ والمنسوخ فقال:
"ولأن الناس أفردوا للجنائز مسجدا في سائر الأعصار ولو جاز في المسجد لم يكن الإفراد موضع لها معنى واحتجوا بأن عائشة لما مات سعد بن أبي وقاص قالت: ادخلوه المسجد لأصلي عليه فأنكر عليها ذلك فقالت: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد" والجواب: أن إنكارهم دل على أن الظاهر في الشرع خلاف ذلك، ولأنهم لا ينكرون ما يسوغ فيه الاجتهاد
وقولها: "ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابن البيضاء إلا في المسجد" دلالة عليهم لأنه لو كان يجوز ذلك لصلى على جميع الناس ولم يخصه، ولم نخصه بابن البيضاء، ولأنه يجوز أن يكون صلى عليه لعذر من مطر أو غيره ويجوز أن تكون الجنازة وضعت خارج المسجد وصلى عليه في المسجد فظنت عائشة أن الناس أنكروا عيها فعل الصلاة، وما روى عن عمر أنه صلى على أبي بكر في المسجد ، وصلى صهيب على عمر في المسجد يجوز أن يكون في مسجد الجنازة، قلت: وربما يقوي هذا أنها رضي الله عنها لم تحتج عليهم بفعلهم في عمر فإن وفاته سنة ثلاثة وعشرين ووفاة سعد خمس وخمسين، أو ست، أو سبع، قال: ولأنه لا يثبت به إجماع مع إنكار من أنكر على عائشة، قالوا: صلاة شرعية فلم يكره فعلها في المسجد كسائر الصلوات؟ قلنا: نقول بموجبه؛ لأن الصلاة لا تكره عندنا، وإنما يكره إدخال الميت، ولأن سائر الصلوات يؤمن فيها تلويث المسجد وتبطل بصلاة المستحاضة ومن به سلس البول، قالوا: المسجد أنظف من غيره من البقاع وكانت الصلوات فيه أفضل، قلنا: من أصلكم أن صلاة الاستسقاء والعيدين في غير المسجد أفضل، وإن كان المسجد أفضل البقاع انتهى فإن قيل: قال شرف الأئمة العقيلي: إن الصلاة على الجنازة في المسجد مكروه كراهة تنزيه، قلت: الأظهر قول شرف الأئمة المكي أنها كراهة تحريم لما سمعت من قول محمد فإن أسلوبه في إطلاق المنع لذلك ومما سمعت من نسخ الإباحة، وظواهر الاستدلال قد روى الطيالسي حدثنا ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة قال: أدركت رجالا ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر إذا جاءوا فلم يجدوا إلا أن يصلون في المسجد رجعوا فلم يصلوا ، والله أعلم"
الكتاب تصنيف زين الدين قاسم بن قطلوبغا الحنفي المتوفى سنة 879 هـ وسبب تأليفه كما قال :
"قد ظن بعض الناس من صلاة شيخ الإسلام سعد الدين الديري على إبراهيم بن الجيهان في الجامع الأزهر أنه لا كراهة لذلك عندنا وأنه لا معنى لتركه لذلك وصلاتي على بعض الناس في الرحاب فسألني فقلت: المنقول المنع"
وبعد أن قال الحكم نقل أدلته من كتب الحنفية فقال :
"قال الإمام محمد بن الحسن في موطئه :
لا يصلى على جنازة في مسجد، وقال الإمام الطحاوي في معاني الآثار: النهي عن الصلاة في المسجد وكراهتها هو قول أبي حنيفة ومحمد، وهو قول أبي يوسف أيضا غير أن أصحاب الإملاء رووا عنه أنه قال:
إذا كان مسجد أفرد للصلاة على الجنازة فيه يصلى على الجنازة فيه فلا بأس
وقول صاحب الهداية في مختارات النوازل:
ولا يصلى صلاة الجنازة في مسجد يصلى فيه الجماعة عندنا للحدث وسواء كان الميت في المسجد، أو خارجا منه في ظاهر الرواية، وفي رواية: إذا كان الميت خارج المسجد لا يكره، وقال في المحيط : وتركه صلاة الجنازة في المسجد خلافا للشافعي، والصحيح قولنا لما روي صلى الله عليه وسلم قال:
"من صلى على الجنازة في المسجد فلا شيء له"
ولأن تنزيه المسجد واجب وفي إدخال المسجد الميت احتمال وقوع النجاسة فيه فيكره كما يكره إدخال الصبي والمجنون المسجد ؛ لأنه لا يؤمن من تلويث المسجد فكذا هذا"
هنا سبب عدم إدخال الميت المسجد هو الخوف من تلويث المسجد بالنجاسة وهو ما يناقض كون الميت يغسل ويتم سد أحد المخرجين بقطن أو ما شابهه كما أن الميت لا يمكن أن يخرج ريحا أو برازا او بولا لأن جسمه يتوقف عن العمل
وقد ذكر قطلوبغا صورة من حيل الناس وهو وضع الميت خارج المسجد والصلاة عليه داخل المسجد أو بعض المصلين داخل المسجد وبعضهم خارجه فقال :
"ولو وضعت الجنازة خارج المسجد والإمام خارج المسجد ومعه صف والباقي في المسجد، اختلفوا فيه فقيل: لا تكره الصلاة عليه، وهكذا روي عن أبي يوسف في النوازل أنه ليس له فيه احتمال تلويث المسجد، وقيل يكره؛ لأن المسجد أعد لأداء المكتوبات فلا يقام فيه غيرها قصدا إلا بعذر، وقال في شرح القدوري المسمى بالمضمرات في قوله: ولا يصلى على ميت في مسجد جماعة: يكره أن يصلى على الميت في المسجد سواء كانت الجنازة في المسجد أو هي خارج المسجد والإمام في المسجد، وفي النسفية : سئل عن صلاة الجنازة وهي خارج والناس في المسجد هل يكره، فقال: كان المشايخ أهل سمرقند لا يكرهون ذلك ويصلون في المسجد والجنازة على باب المسجد حتى ورد عليهم السيد أبو شجاع فرأى منهم ذلك فقال: ما لكم تصلون على الجنازة في المسجد، قالوا: إن مشايخنا أجازوا ذلك، قال: قد يقدمهم مشايخ أخر لم يجوزوه، قالوا: ومن هم، قال إمام الأئمة أبو حنيفة ومن تبعه ونصوا على كراهة ذلك في كتبهم فاتفقوا على أن بنوا وراء المقصورة سقيفة بوضع الميت فيها وصفوف من الناس في هذه السقيفة ثم يتصل منه الصفوف التي في الجامع، قال: فالحاصل أن إدخال الجنازة في المسجد والصلاة عليها في المسجد مكروه عندنا، وفي وضع الجنازة على باب المسجد والإمام والقوم في المسجد اختلاف المشايخ ووضع الجنازة خارج المسجد وقيام الناس معه خارج المسجد ثم اتصال الصفوف بهم غير مكروه، وأما الحجاج فقال محمد في الموطأ ثنا مالك ثنا نافع عن ابن عمر أنه ما صلى على عمر إلا في المسجد وقال محمد: لا يصلى على جنازة في المسجد ، وكذلك بلغنا عن أبي هريرة وموضع الجنازة بالمدينة خارج المسجد، وهو الموضع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى على الجنازة فيه ، فأفاد أن عمل النبي صلى الله عليه وسلم كان على خلاف ما وقع في الصلاة على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فيحمل على العذر، وبه قال في المحيط، ولفظه: فلا يقام فيه - أي المسجد - غيرها - أي غير الصلاة - تعبدا إلا لعذر وهذا تأويل حديث عمر أنه لما قتل صلى عليه في المسجد كأنه كان لعذر وهو خوف الفتنة والصد عن الدفن عند النبي صلى الله عليه وسلم"
الرجل هنا يكره التحايل على الحكم الذى يظن أنه صحيح طبقا لرأى أصحاب المذهب والغريب فى المسألة هو أن الروايات فى الموضوع متناقضة فهو روى الرواية المحرمة لصلاة الجنازة فى المسجد ثم ذكر الرواية المناقضة لها فقال :
"وروى الإمام الطحاوي عن عائشة أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص قالت: أدخلوا به المسجد حتى أصلي عليه فأنكر ذلك الناس عليها فقالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء في المسجد " قال: فذهب قوم إلى هذا الحديث فقالوا: لا بأس بالصلاة على الجنازة في المساجد، واحتجوا أيضا بما روي عن ابن عمر أن عمر صلى عليه في المسجد ، وخالفهم في ذلك آخرون فكرهوا الصلاة على الجنائز في المساجد، واحتجوا بما حدثنا إلخ فروى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من صلى على جنازة في مسجد فلا شيء له"
وللخروج من التناقض فى الحكم ذكر أن هناك ناسخ ومنسوخ فى المسألة فقال:
" فلما اختلفت الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب نظرنا في ذلك لنعلم المتأخر من الحديثين فنجعله ناسخا للمتقدم منهما، فوجدنا حديث عائشة دليلا على أنهم كانوا تركوا الصلاة على الجنائز في المسجد بعد أن كانت تفعل فيه وارتفع ذلك من فعلهم، وذهب معرفته عن عائشة فلم يكن ذلك عندها لكراهية حدثت بل كان الأمر عندها على أنهم كانوا يصلون عليها في المسجد لو شاءوا، لذلك أمرت به حتى أنكر ذلك الناس عليها وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلمهم بما غاب عنها فبان بذلك أن الإباحة للصلاة عليها في المسجد هي المتقدمة على ما في حديث عائشة من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهل بن البيضاء في المسجد وأن الترك للصلاة عليها في المسجد هو المتأخر عن ذلك على ما في حديث أبي هريرة وأن حديث أبي هريرة ناسخ لحديث عائشة ، وهذا الذي ذكرناه من النهي عن الصلاة على الجنائز في المسجد وكراهيتها هو قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول أبي يوسف أيضا غير أن أصحاب الإملاء رووا عنه أنه قال: إذا كان مسجد قد أفرد للصلاة على الجنائز فلا بأس أن يصلى على الجنائز فيه "
وحكاية الناسخ والمنسوخ لا يمكن هنا الاستدلال تاريخيا على وجودها فإن كان أبو هريرة كما هو معروف قدم المدينة فى سنة 8 هـ فإن سهيل بن بيضاء توفى فى سنة 9 هـ ومن ثم لا يمكن تحديد متى قال أبو هريرة حديثه فى سنة 8 أو 9 أو 10 أو 11 هـ ومن ثم فمعرفة الناسخ من المنسوخ فى المسألة محالة من كتب الروايات
ثم ذكر قطلوبغا مسألة حكم مسجد الجنازة وهو بناء أو مكان لا يصلى فيه شىء سوى على الموتى فنقل التالى:
" وما نقله عن أبي يوسف قال في المحيط: اختلفوا هل له حكم المسجد، والصحيح أنه ليس بمسجد؛ لأنه ما أعد للصلاة حقيقة؛ لأن صلاة الجنازة ليست بصلاة حقيقة، ولهذا يجوز إدخاله الميت فيه وحاجة الناس ماسة إلى أنه لم يكن مسجدا توسعة للأمر عليهم انتهى وقال الإمام أبو الحسين القدوري في التجريد: قال أصحابنا: تكره الصلاة على الموتى في مسجد الجماعة، وقال الشافعي: يجوز لنا "
والكلام عن كون صلاة الجنازة ليست صلاة كالصلوات المفروضة صحيح فصلاة الجنازة ليست سوى الدعاء للميت سواء بالاستغفار أو بطلب الرحمة أو أى دعوة تطلب دخوله الجنة وهى تماثل الصلاة على المتصدقين الأحياء فى قوله تعالى "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم"
فهذه الصلاة هى على الناس كما قال تعالى فى صلاة الجنازة :
"ولا تصل على أحد منهم مات ابدا ولا تقم على قبره"
إذا صلاة الجنازة ليست سوى دعاء للميت كما فى الحديث الذى رواه البخارى:
1327 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِى سَلَمَةَ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ نَعَى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّجَاشِىَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ ، يَوْمَ الَّذِى مَاتَ فِيهِ فَقَالَ « اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ »
والغريب أن صلاة الجنازة التى تصلى ليس فيها رواية واحدة تذكر ما يفعله الناس حاليا من قراءة الفاتحة والتشهد أو الصلاة على إبراهيم(ص) ومحمد(ص) وآلهما والدعاء للميت والدعاء للمصلين فالمذكور هو أربعة تكبيرات أو خمسة وقراءة الفاتحة والتشهد فقط أو قراءة الفاتحة فقط
والغريب أن رغم كون رواية البخارى السابقة توافق القرآن فى كونها دعاء فقط بالاستغفار للميت فإنه روى فى نفس الحادثة روايات مناقضة وهى التكبير مثل :
1333 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَعَى النَّجَاشِىَّ فِى الْيَوْمِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ ."
ومن ثم فصلاة الجنازة فى المسجد أمر بلا دليل من الوحى فطبقا لقوله تعالى تكون الصلاة بعد الدفن فى القبر لقوله تعالى "ولا تقم على قبره" ويوافقه ما رواه أبو داود فى سننه:
3223 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِىُّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَحِيرٍ عَنْ هَانِئٍ مَوْلَى عُثْمَانَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ « اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ بَحِيرُ بْنُ رَيْسَانَ."
وقد استكمل قطلوبغا كلامه مكررا ما قاله سابقا عن تلويث المسجد فقال:
"حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى على ميت في المسجد فلا شيء له" ذكره أبو داود ، قلت: ورواه عن ابن أبي شيبة بلفظ: "من صلى على جنازة في المسجد فلا صلاة له" ، قال : وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ضاق بهم المكان رجعوا ولم يصلوا، وسيأتي له لفظ آخر والله أعلم، قال: ولا يقال أنه متروك الظاهر لأننا اجتمعنا على استحقاقه الثواب بسقوط الفرض؛ لأن الفرض وإن سقط فيجوز أن لا يحصل له الثواب وسقوط الفرض لا يوصف أنه له من غير فوات ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نعى النجاشي إلى أصحابه خرج فصلى عليه في المصلى ، ولو كان تجوز الصلاة في المسجد لم يكن للخروج معنى ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم " وكان المعنى فيه أنه لا يؤمن تلويث المسجد منهم، وهذا موجود في الميت"
وكرره كلامه عن الناسخ والمنسوخ فقال:
"ولأن الناس أفردوا للجنائز مسجدا في سائر الأعصار ولو جاز في المسجد لم يكن الإفراد موضع لها معنى واحتجوا بأن عائشة لما مات سعد بن أبي وقاص قالت: ادخلوه المسجد لأصلي عليه فأنكر عليها ذلك فقالت: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد" والجواب: أن إنكارهم دل على أن الظاهر في الشرع خلاف ذلك، ولأنهم لا ينكرون ما يسوغ فيه الاجتهاد
وقولها: "ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابن البيضاء إلا في المسجد" دلالة عليهم لأنه لو كان يجوز ذلك لصلى على جميع الناس ولم يخصه، ولم نخصه بابن البيضاء، ولأنه يجوز أن يكون صلى عليه لعذر من مطر أو غيره ويجوز أن تكون الجنازة وضعت خارج المسجد وصلى عليه في المسجد فظنت عائشة أن الناس أنكروا عيها فعل الصلاة، وما روى عن عمر أنه صلى على أبي بكر في المسجد ، وصلى صهيب على عمر في المسجد يجوز أن يكون في مسجد الجنازة، قلت: وربما يقوي هذا أنها رضي الله عنها لم تحتج عليهم بفعلهم في عمر فإن وفاته سنة ثلاثة وعشرين ووفاة سعد خمس وخمسين، أو ست، أو سبع، قال: ولأنه لا يثبت به إجماع مع إنكار من أنكر على عائشة، قالوا: صلاة شرعية فلم يكره فعلها في المسجد كسائر الصلوات؟ قلنا: نقول بموجبه؛ لأن الصلاة لا تكره عندنا، وإنما يكره إدخال الميت، ولأن سائر الصلوات يؤمن فيها تلويث المسجد وتبطل بصلاة المستحاضة ومن به سلس البول، قالوا: المسجد أنظف من غيره من البقاع وكانت الصلوات فيه أفضل، قلنا: من أصلكم أن صلاة الاستسقاء والعيدين في غير المسجد أفضل، وإن كان المسجد أفضل البقاع انتهى فإن قيل: قال شرف الأئمة العقيلي: إن الصلاة على الجنازة في المسجد مكروه كراهة تنزيه، قلت: الأظهر قول شرف الأئمة المكي أنها كراهة تحريم لما سمعت من قول محمد فإن أسلوبه في إطلاق المنع لذلك ومما سمعت من نسخ الإباحة، وظواهر الاستدلال قد روى الطيالسي حدثنا ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة قال: أدركت رجالا ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر إذا جاءوا فلم يجدوا إلا أن يصلون في المسجد رجعوا فلم يصلوا ، والله أعلم"