نقد كتاب الظاهرة العاطفية الانسانية في سيرة الرسول (ص)
المؤلف محمد علي التسخيري وقد استهل الكتاب بذكر نقاط مهمة فقال :
"قبل الحديث عن هذا الجانب المهم في سيرته (ص) نري من المستحسن ذكر بعض النقاط وهي:
أولا: العاطفة جزء مهم من الشخصية الإنسانية، والواقعية، وهي من أهم صفات الإسلام العامة تقتضي الاهتمام بها، وترشيدها لتتحقق الثمار المرجوة. وهنا نجد الإمام عليا (في مجال وصفه للانسجام بين مكونات الشخصية الإنسانية، وهي العقل والفكر والعاطفة والحواس والسلوك) يقول: «العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الجوارح» «بحار الأنوار للمجلسي ج 1ص، 98، غريب الحديث للهروي، ج 1،ص 241.» ليكشف بدقة عن جذور السلوك الإنساني الواعي."
ولا وجود في الإسلام لما يسمى العاطفة وإنما خلق الرحمة وهذا الخلق إذا استعمل حسب الشرع كان جزء من العقل وهو جانب الخير في الإنسان وإذا استعمل حسب الشهوة وهى هوى النفس كان جزء من الشهوات وهو الجانب الشرير في الإنسان ومن ثم عندما تحدث الله عن رحمة الرسول(ص) بالمسلمين جعلها من عنده أى من جانب طاعة الخير فقال :
"فبما رحمة من الله لنت لهم "
وتحدث التسخيرى عن تربية النفس فقال :
"والإسلام يعمل تماما علي تربية الإنسان في كل هذه المراحل:
أ يقوم بتربية عنصر التعقل الغريزي في الإنسان فيدفعه للتأمل والتدبر والتعقل والبرهنة والنظر وأمثال ذلك.
ب يؤكد علي الأسلوب المنطقي للعملية العقلية مبتعدا بها عن ما يخل بالنتائج من أساليب تتنافي والحوار السليم.
ج يربي العنصر العاطفي ويشبعه بحب أصيل لأروع محبوب وهو (الله) تعالي الجامع لكل ما ترغب النفس فيه من كمال مطلق، فتسمو العاطفة غاية السمو.
د يعطي الشريعة الغراء الفطرية التي تنظم السلوك وترسم خارطة السعادة.
ه يربي الإرادة القوية الواعية التي تبقي أسمي من كل دافع عاطفي مهما كان متأججا للتأكد من كون العاطفة تسير في الاتجاه الصحيح أم لا، و تحتفظ بحريتها في توجيه السلوك. وبهذه الحرية تحصل المسؤولية. فلسنا مع من يصف (الإرادة) ب (العاطفة المتأججة) وإلا لوقعنا في (الجبرية) وهو الأمر المرفوض وجدانا وشرعا. ولكن يبقي للعواطف دورها المؤثر علي الإرادة والسلوك. "
وكلام التسخيرى عن دور العواطف كلام عام فالعواطف وهى أخلاق عامة كالحنان والسرور والحزن والرفق واللين والبشاشة والحب منها الحلال والحرام وليست كلها مطلوبة ومن ثم ينبغى تفصيل الأمر لأن هذا يدخل في الدين ما ليس منه
وما يتحدث عنه التسخيرى ليس كله في جانب الأفعال التى تسمى خلقية فهو يتحدث عن الأهواء والغرائز وهى الشهوات وفى هذا قال متحدثا:
ومن هنا جاء التأكيد الإسلامي علي هذه المسألة بشتي الأساليب ومنها:
1 الأساليب التوجيهية المباشرة التي تحذر من الأهواء الجامحة بل والطاغية، فيقول القرآن الكريم:
أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا «
2 الأساليب غير المباشرة باستخدام الأمثال والقصص التي تمجد الذين سيطروا علي دوافعهم وأهوائهم كالأنبياء والصالحين.
3 تقديم النماذج العملية المتمثلة في سلوك النبي (ص) والقادة الذين رباهم من أهل البيت الطاهرين والصحابة الميامين (رضي الله عنهم).
4 دعوة المسلمين بالارتفاع بحبهم إلي أسمي المستويات وهي حب الله وحب رسوله وحب أهل بيته الطاهرين وأصحابه المخلصين، وحينئذ تنتظم العواطف في منظومة رائعة منسجمة مع الفكر، وخلاقة للعمل للصالح."
وما زال التسخيرى يتكلم عن العواطف وهى كلمة مبهمة المعنى عنده وعند عامة الناس فيقول:
"ثانيا: وتتم هذه العملية التربوية للعواطف بعد تأصيل وتعميق الإيمان بالله الجامع لكل صفات الكمال والجلال، وربط الإنسان به إلي أقصي حد من جهة، وتربية تصوره عن الكون والحياة بتأكيد قيامهما علي أصول أهمها (الحق، والعدل، والحب، والرحمة) ويبقي الفكر والعاطفة يعيشان في هذه الأجواء ويكملان فيها وتأتي سيرة الرسول وسنته لتوصل هذه المعاني، وتقدم التجسيد الحسي الأمثل لها"
وقد تحدث عن وجود أربعة أصول لتلك التربية هى الحق، والعدل، والحب، والرحمة وهى كلمات بعضها كالحق والعدل معناهما واحد والحب والرحمة قد يكونان بنفس المعنى إذا كان المراد حب الله واتباع رحمة الله
ومن ثم لا يوجد شىء اسمه اركان أو قواعد اصول عامة في الإسلام لأن كل حكم من أحكام الله سواء ظنه المسلم كبيرا أو صغيرا هو اصل وقاعدة وتلك التقسيمات لأصول وقواعد وأركان هى تقسيمات بشرية ما لم ينص الله عليها كتقسيم حلال وحرام حق وباطل وهى أمور تعنى نفس المعنى وفى أصوله قال التسخيرى:
"ولشيء من التوضيح نلاحظ هذه الأصول:
أولا الحق سر الكون
يقول الراغب في مفرداته بتصرف:«الحق المطابقة والموافقة كمطابقة رجل الباب في حقه لدورانه علي إستقامة. والحق يقال علي أوجه:
الأول: يقال لوجد الشي ء بسبب ما تقتضيه الحكمة. ولهذا قيل في الله تعالي هو الحق (ثم ردوا إلي الله مولاهم الحق).
الثاني: (للموجد بحسب مقتضي الحكمة. ولهذا يقال الله تعالي كله حق (وأنه للحق من ربك).
الثالث: من الاعتقاد بالشي ء المطابق لما عليه ذلك الشي ء في نفسه. كقولنا: اعتقادنا فلان في البعث والثواب ... حق (فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق).
الرابع: للفعل والقول الواقع بحسب ما يجب وبقدر ما يجب وفي الوقت الذي يجب. كقولنا: فعلك حق (حق القول مني لأملأن جهنم)»
ويمكننا أن نستنتج من مجموع هذه الاستعمالات أن الحق يعني باختصار: الأمر الواقع أو الواقعي ونقصد بالواقع: الموجود المتعين في الواقع الموضوعي أو العالم المستقل عن الصور الذهنية، وبالواقعي الأمر الذي يطابق مقتضيات الواقع الخارجي وأروع إنطباق للحق هو في الذات الإلهية باعتبار أنها بلغت من الوضوح لدي الفطرة الإنسانية بحيث عاد الإيمان بها إيمانا بديهيا. فأنوار الله تعالي قد غمرت الوجود فلم تعد تبصر الله تعالي في كل شي ء، لذا كان هو الحق الذي لا مراء فيه والواقع الذي لا يشك فيه.
أما ما عداه تعالي من مخلوقاته وتشريعاته التي أسماها القرآن بالحق فهي كما أري اكتسبت صفة الحق من وجهتين:
أ من كونها واقعا موضوعيا وهذا كما نشاهده في قوله تعالي (يوم يقوم الناس بالحق) فيلاحظ هنا التأكيد علي الأشياء الخفية عن حس الإنسان وإعطائها صفة كونها حقا لتركيز الإيمان بها.
ب من كونها وجدت وفق مخطط إلهي عام للكون، كل جزء فيه ضروري لسير الحركة الكونية، ودخيل في تحقق الغاية المرجوة من الخلق التي أرادتها العناية الإلهية منذ ارادت أن يكون فكان، وفي هذا القسم الثاني تدخل كل الأشياء سواء كانت مخلوقات تكوينية أو قوانين تشريعية. يقول تعاليذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق) (وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق) (والوزن يومئذ الحق) (هو الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق) (قل الله يهدي للحق) (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)"
وما سبق من كرم للتسخيرى إنما هو بيان لمعانى كلمة الحق وليس شرح للأصل الذى أراده وقد تحدث عن العدل فقال :
"ثانيا العدل يسري في أنحاء الوجود
رغم أن البحث الكلامي والجدل الذي دار بين الفرق الإسلامية كان ينتهي أحيانا إلي نتائج معينة، يتغلب فيها أنصار العدل حينا، وتقوي الشبهات فيغلب أنصار رفض العدل حينا آخر، فإنه مما لا شك فيه لدي المسلم: أن العدل بأي معني من معانيه يبدأ بالعدل الإلهي بمفهومه الإجمالي الذي حدثنا عنه القرآن الكريم، وينتهي بتطبيقاته في كل ذرة من ذرات الوجود.
فالعدل العام إذن في اعتقاد المسلم قوة أخري وعامل قوي من العوامل المعنوية، التي تتدخل لصالح القضية العادلة في الكون ... والظلم بنفسه يشكل عاملا من عوامل الزوال والفناء، بغض النظر عن العوامل الأخري.
ذا بإيجاز ملخص نظرة المسلم العامة، ولا مجال للإفاضة فيها أكثر، فلنلاحظ الآيات التالية:
وأمرت لأعدل بينكم إن الله ياأمر بالعدل والإحسان وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن الله لا يظلم مثقال ذرة ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا لا ظلم اليوم شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قآئما بالقسط يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله "
وما فعله عن الحق وهو تجميع آيات عن كلمة الحق فعله في الفقرة السابقة في العدل وفعله في الفقرة القادمة عن الحب ولكنه لم يجد عددا كافيا فقال :
"ثالثا الحب إطار العلاقات بين مختلف أنحاء الوجود
ومما يعتقد به المسلم علي ضوء القرآن الكريم: أن هناك إطارا رحيما عاما شاملا لكل أنحاء الوجود، وساريا في مختلف أنواعها، فالعلاقات بين الخالق والمخلوقين يؤطرها الحب، والعلاقات بين المخلوقين المتحدي الهدف والمتأدبين بأدب السماء روحها الحب، وحتي العلاقة بين المؤمنين في الكون وبين أجزاء الكون التي لا تمتلك شعور الإنسان، حتي هذه العلاقة، يحكمها الحب المتبادل.
ومبررات هذا الحب واضحة تماما علي ضوء العقيدة الإسلامية وتعاليم القرآن، فإذا بدأنا بالإطار الودي القائم بين الإنسان وربه أدركنا أروع علاقة حب تتفاوت درجاتها، من حب يقوم علي المصلحة في طرف الإنسان ولكنه علي أي حال حب جارف، إلي حب خالص واع يعبر عن قمة في هذا المعني، أنه حب الأوصياء المخلصين والإسلام يمتلك خاصية أنه يبدأ بالأشياء ببداية بسيطة، كإقامة حب يقوم علي ذلك الأساس المصلحي، ثم يرتفع به إلي مستوي يجعله جزءا من كيان الإنسان. ودافعا ذاتيا يتحكم في سلوكه، ويوجهه لصالح القضية الإنسانية العامة.
أما الحب من طرف الباري جل اسمه، فهو وأن كان يخلق في نفوس السذج من المؤمنين نفس الإيحاءات والتصورات البشرية من الحب بين الكائنات، ولكنه في الواقع أسلوب تعبيري عن القرب من العطاء الإلهي والاختصاص بالرحمة والرضوان بصورة أكبر من ذي قبل. وإنني قد أجزم بأن الإيحاء الأول حاصل حتي عند بعض أعمق المؤمنين بالله تعالي بالنظرة الأولية: وأن هذا أيضا بنفسه مطلوب ومقصود. إذ أن الحب حرارة ولوعة وشوق، والنصوص القرآنية الكريمة تركز علي عملية خلق الانفعال وشد العواطف للباري عز وجل بأساليب، منها بل أعظمها الدوافع الناتجة من تصور الله تعالي يلقي بظلال المحبة علي الإنسان العابد .. ويمكن للقارئ الكريم التأكد من ذلك بمراجعة وجدانه الحاكم في مثل هذه الموارد.
فالنصوص تثبت الحب لأصناف المؤمنين الواعين، من أمثال (المحسنين، التوابين، المتطهرين، المتقين، الصابرين، المتوكلين، المقسطين، الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص والنصوص تثبت الحب بين أفراد المؤمنين (يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا)
والنصوص تربط بعلاقة الحب بين الإنسان والطبيعة، بعد أن يشعر الإنسان بأن الطبيعة مسخرة له ولصالحه هو، وبعد الإيحاء إليه بأن يد العناية الإلهية قد باركت في الأرض أقواتها.
وقد ورد عن النبي العظيم (ص) أنه قال عندما رجع من غزوة تبوك وعندما أشرف علي المدينة: «هذه طابة، وهذا جبل أحد يحبنا ونحبه» «كما عبر عن ذلك بأن «حب الوطن من الإيمان»
وهكذا ننتهي إلي حلقة رائعة من حلقات هذا الحب، جعلها القرآن بمثابة أجر للرسالة الإسلامية، والجهود التي بذلها الرسول الأعظم في خدمة هذه الأمة، وهي حلقة ربط الأمة كل الأمة بأهل البيت الذين هم خير مؤهل لقيادتها نحو شواطئ الأمان، والذين هم سفن النجاة، وباب حطة للعالمين».
(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربي) «وأخيرا ننتهي إلي حلقة صغري من حلقاتها، وهي المودة القائمة بين الزوجين (وجعل بينكم مودة ورحمة)
وتعتبر النصوص علي جوانب النفي مكملة للنصوص الإيجابية، فإن تلك النصوص تؤكد تارة علي انقطاع صلة الحب بين الله و العباد الذين خرجوا عن أمرربهم، من أمثال (المعتدين، الكافرين، الظالمين، من كان مختالا فخورا، من كان خوانا أثيما، المفسدين، المسرفين، الخائنين، المتكبرين، الفرحين).
وأخري علي انقطاعها بين أفراد الإنسان: الذين يهتدون بهدي الله، والذين استزلهم الشيطان إلي الكفر (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله)
النتيجة
من مجموع هذا نستخلص هذه النتيجة:
(أن المسلم يعتقد بأنه يعيش في عالم من الحب المتبادل).
ولهذه العقيدة تأثيرها الواسع الأبعاد علي خلق الأمل في نفس الإنسان: الأمل الإيجابي الدافع نحو سعادته ورقيه.
علي أننا نعترف هنا بأنا لم نف الموضوع حقه في نفسه، لكننا يجب أن نتذكر أننا لا نبحث هنا عنه إلا بمقدار ما يوضح لنا الصورة التي نريد أن نرسمها."
وبالقطع ما استخلصه الرجل خاطىء فهناك كراهية بين المسلمين ككراهية بعض الأزواج لزوجاتهم والعكس كما قال تعالى :
" فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم"
وقد بين الله وجود غل أى كراهية قلبية بين المسلمين وانها لا تزول إلا في الجنة كما قال تعالى :
"ونزعنا ما في صدورهم من غل اخوانا على سرر متقابلين"
كما أن على المسلم عليه كراهية الكفار الذين يعتدون عليه أو على مسلمين أخرين فقد حرم الله مودة هؤلاء المعتدين واعتبر من يودهم كافر مثلهم فقال تعالى:
"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا فى سبيلى وابتغاء مرضاتى تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل
وتحدث عن الرحمة منطلقا من جزء خلق وهى أنها مطلوبة في كل وقت وحين فقال:
"رابعا الرحمة: بها انطلق هذا الوجود الكائن
هذا المقطع المبارك يعتبر أروع مقطع جامع يعبر عن سر العقيدة الإسلامية، فقد وردت بعض الروايات التي تركز علي أن القرآن جمع في سورة الفاتحة، وأن سورة الفاتحة جمعت في البسملة ... وعند تحليلنا لهذا المضمون لا يسعنا إلا أن نري أنها تشير إلي: أن سورة الفاتحة إنما اعتبرت روح القرآن باعتبار أنها تحوي أصول العقيدة الإسلامية بصورة إجمالية، والقرآن قد أطر كل شي ء تحدث عنه بإطار العقيدة.
أما إذا انتقلنا إلي المرحلة الثانية، فسنجد أن البسملة نفسها شكلت روح العقيدة وأساسها، إذ ركزت علي انطلاق كل شي ء في الوجود من اسم الله تعالي في مقطعها الأول، وعن الإطار الذي تم بموجبه ذلك الانطلاق بمقطعها الأخير.
فالانطلاق: «بسم الله» وموجبه: (الرحمة التي لا حد لها).
وهذه حقيقة نجدها متمشية في مختلف المواضع من القرآن الكريم، معبرة عن مظهر من مظاهر الكمال في الذات الإلهية، مما خلق اعتقادا راسخا عند المسلم: أنه منطلق من مصدر الرحمة، ومنته إلي عالم الرحمة، وسائر في كنف هذه الرحمة، التي تتجاوز عن الكثير من موارد الانحراف التي تطرأ أحيانا علي سلوكه .. وسنجد عند استعراضنا لآثار الدعاء: الكثير من الأساليب التربوية العقائدية، التي تركز علي هذا الجانب، في الأدعية المنقولة وفي القرآن الكريم نجد الكثير من الآيات الكريمة التي تقر نصفة العزة الإلهية بالرحمة، وتنتهي بعبارة: (إنه هو العزيز الرحيم) أو بعبارة: أنه «خير الراحمين»، أو «كتب علي نفسه الرحمة» أو (وربك الغني ذو الرحمة) وهكذا الآيات الشريفةفقد جاءكم بينة من ربكم وهدي ورحمة) (إن رحمت الله قريب من المحسنين) (فانظر إلي آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها) (5)(قل يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمةالله)(الرحمن علي العرش استوي)
وحتي في أشد المواقف هيبة ورهبة تأتي صفة (الرحمن)وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) «
وهكذا يعتقد المسلم بعنصرين آخرين بالإضافة إلي عنصري الحق والعدل اللذين يعنيان التوازن أول ما يعنيان وهما: الحب والرحمة، اللذان يعنيان: الفضل من الخير والإعطاء فوق الاستحقاق وبهذا نكون قد عرفنا القوانين الأساسية المتحكمة في الكون، وهي قوانين: (الحق والعدل والحب والرحمة)، وكلها مما تتعلق به القلوب، وتنمو به العواطف والأحاسيس"
الرحمة ليست مطلوبة في كل وقت لأن الرحمة نجدها مخصوصة بين المسلمين بقوله" رحماء بينهم " ولا هى تسرى في الكون وإلا كان كيف تأكل مثلا الحيوانات بعضها البعض ؟وإلا كيف عاقب الله الأقوام الكافرة بالريح العاصفة والغرق والحاصب ؟ وإلا كيف يختبر الله الإنسان بالشر ؟
وحاول التسخيرى أن يتتبع ما سماه أصولا في السيرة النبوية ومعظمها لم يحدث منه شىء لأنه تاريخ كاذب وفى هذا قال :
"وقد قدم الإسلام رسوله الكريم أروع مثال لهذه الحقائق وكانت سنته وسيرته تعمقها في النفوس.
الرسول الكريم أعظم مظهر لهذه المعاني
إن المتتبع لسيرته وسنته (ص) يجده بوضوح أروع تجل لهذه الحقائق، (الحق والعدل، والحب، والرحمة) ليكون بحق المتمم لمكارم الأخلاق، والرحمة المهداة للبشرية.
وهذا ما سنستعرضه باختصار في العناوين والروايات الآتية ولكن قبل الدخول في هذا الاستعراض نري من الجميل أن نذكر بعض المقاطع من (نهج البلاغة) يصف فيها الإمام علي أستاذه ومعلمه ونبيه ومحبوبه رسول الله (ص) بأروع الأوصاف فيقول:
«بعث الله سبحانه محمدا رسول الله (ص) لإنجاز عدته، وإتمام نبوته، مأخوذا علي النبيين ميثاقه، مشهورة سماته، كريما ميلاده» ويقول عنه: «قائما بأمرك، مستفزا في مرضاتك، غير ناكل عن قدم، ولاواه في عزم، واعيا لوحيك، حافظا لعهدك، ماضيا علي نفاذ أمرك، حتي اوري قبس القابس،وأضاء الطريق للخابط، وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن والآثام» «
ويصف سيرته فيقول: «سيرته القصد، وسنته الرشد، وكلامه الفصل، وحكمه العدل»
ويقول عنه: «فبالغ (ص) في النصيحة، ومضي علي الطريقة، ودعا إلي الحكمة، والموعظة الحسنة»
وكذلك يقول: «حتي بعث الله محمدا (ص)شهيدا، وبشيرا ونذيرا، خير البرية طفلا، وأنجبها كهلا، وأطهر المطهرين شيمة، وأجود المستمطرين ديمة»"
الكلام هنا مخالف لعقيدة المسلمين وهى أنهم لا يفرقون بين الرسل(ص) كما في قوله تعالى " لا نفرق بين أحد من رسله"
فلا يقولوا محمد(ص) أفضل من غيره كما في القول" خير البرية طفلا، وأنجبها كهلا، وأطهر المطهرين " ثم قال
وفي موضع آخر يقول عنه: «التصديق منهاجه، والصالحات مناره، والموت غايته، والدنيا مضماره، والقيامة حلبته، والجنة سبقته ... فهو لعيشك نعمة للعالمين، ورسولك بالحق رحمة»
وكذلك يقول: «طبيب دوار بطبه، قد أحكم مراهمه، وأحمي مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه، من قلوب عمي، وآذان صم، وألسنة بكم»
«عبده ورسوله، ونجيبه وصفوته، لا يؤازي فضله، ولا يجبر فقده، أضاءت به البلاد بعد الضلالة المظلمة، والجهالة الغالبة»
«ولقد كان (ص) يأكل علي الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري ويردف خلفه» «أمين وحيه، وخاتم رسله، وبشير رحمته، ونذير نقمته» »
وما نقل عن على من هذه التزكية وهى المدح وعن غيره لا تجوز لأن الله نهى المسلمين عن تزكية الواحد نفسه أو غيره فقال :
" فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى"
ومن ثم فمن أراد مدح النبى(ص) فعليه أن يقول عنه ما قاله الله فقط وليس أى كلام من عنده
وحاول التسخيرى ذكر مواقف تؤيد أصوله الأربعة فقال :
" ولا أجد أروع من هذه الأوصاف، كما لا استطيع أن أفصل في مواقفه (ص) بين موقف وموقف، وما علي إلا أن أذكر بعض الروايات معلقا عليها لا غير وفق العناوين التالية:معتبرا إياها ظواهر عامة في حياته (ص).
أولا: الرحمة سنة عامة ومع الجميع
1 عنه (ص) «لما خلق الله الخلق، كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: ان رحمتي تغلب غضبي» وهو مفهوم شائع في الأدعية المروية عن أهل البيت .
2 وعنه (ص) «أن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة فيها تعطف الوالدة علي ولدها والوحش والطير بعضها علي بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة» » فهي سنة تكوينية، والتشريع يتوازن مع التكوين.
3 عن ابن مسعود «كأني أنظر إلي رسول الله (ص) يحكي نبيا من الانبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:
(اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون " إنها رحمة حتي بالكافرين المعتدين.
4 روي جابر بن سمرة قال: «صليت مع رسول الله (ص) صلاة الأولي ثم خرج إلي أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدي أحدهم واحدا واحدا قال: وأما أنا فمسح خدي قال فوجدت ليده بردا أو ريحا كأنما أخرجها من جؤنة عطار»
5 قال (ص) «تري المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكي عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمي» وهكذا تسود أروع وأمتن علاقات الرحمة والحسب بين المؤمنين.
6 وقال (ص) «إذا صلي أحدكم للناس فليخفف، فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلي أحدكم لنفسه فليطول ماشاء».
7 وروي مالك بن الحويرت قال: أتينا النبي (ص) ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة فظن أنا أشتقنا أهلنا، وسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه، وكان رقيقا رحيما، فقال: «ارجعوا إلي أهليكم فعلموهم ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم». »
8 «قدم علي النبي سبي، فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي، فإذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وارضعته فقال النبي (ص) أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فقال الصحابة (رض): لا وهي تقدر الا تطرحه فقال: الله أرحم بعباده من هذه بولدها»
9 بعدما جري في أحد نادته الملائكة إن شاء تطبق علي أعدائه الأخشبين فقال (ص): «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» «»
10قال رسول الله (ص) «بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني اسرائيل فنزعت موقها فسقته فغفر لها به»
11 وروي أسامة بن زيد (رض) قال: كان رسول الله يأخذني فيقعدني علي فخذه ويقعد الحسن بن علي علي فخذه الآخر ثم يضمهما ثم يقول: «اللهم ارحمهما فإني أرحمهما»
12 وصلي (ص) علي جنازة فقال: «اللهم اغفر له وارحمه»
13 وكان يقول: «أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة»
14 وكان يقول: «رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشتري وإذا اقتضي»
15 وقال (ص): «لا يرحم الله من لا يرحم الناس» »
16 وقيل يا رسول الله ادع علي المشركين قال: «إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة»
وهكذا تأتي رحمة الله الإسلام لتشمل: الخلق كلهم، بل الكون كله (وهو المفهوم من عبارة البسملة في القرآن بعد حديثها عن انطلاقة كل شي ء باسم الله، ووصفه تعالي بالرحمن الرحيم) وتشمل حتي الكافرين المعتدين وتسري في كل العلاقات الاجتماعية الإسلامية بين المؤمنين، وتتركز علي الولدان والشباب وتصل إلي الحيوان، فهي إذن تشمل كل شي ء. والمسلم الواعي هو الإنسان الرحيم بكل شي ء"
التسحيرة في العنوان السابق قال أنه سيبتحدث عن مواقف تدل على أفعال الرحمة التى فعلها النبى(ص) وما استشهد به من الروايات ليس منها دليل على فعل قام به رحمة سوى رقمى 3و4 والأربعة عشر الأخرى هى روايات في تشريعات وحكايات تدل على رحمة غيره
وفى ثانيا تحدث عما سماه مظاهر الرحمة فقال:
"ثانيا: البر والإحسان والإيثار مظاهر للرحمة:
وهي أمور تتسع اتساع الرحمة نفسها من خلال سنة الرسول الأكرم وسيرته: فلنلاحظ هذه الباقة من الأحاديث:
1 قال (ص): «في كل ذات كبد رطبة أجر» وقد استند الإمام زين العابدين لهذا الحديث فجوز إطعام الحرورية من الهدي رغم أنهم كانوا من الد أعداء أهل البيت .
2 وقال (ص): «كل معروف صدقة».
3 وعن أبي ذر (رض): قال لي النبي (ص): «لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تلقي أخاك بوجه طلق»
4 وقال (ص): المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة،
5 قال (ص): «المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن: يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه»
6 وقال رسول الله (ص) «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أوقل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم»
7 وقال (ص) «طعام الاثنين كافي الثلاثة وطعام الثلاثة كافي الأربعة»
8 وقال (ص): «أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة»
9 وقال (ص): «الساعي علي الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله»
10 وقال (ص): «إخوانكم خولكم»
11 وقال (ص): «من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه»
وبهذا يتحول المسلم المتبع لرسول الله (ص) إلي وجود بشري محسن. يحسن لكل ذات كبد رطبة إنسانا كان أم حيوانا، ويصنع المعروف أي معروف حتي ولو كان قليلا، يعيش هم أخيه ويشعر بآلامه وآماله، وينظر إليه مرآة له،ويقاسمه لقمة عيشه (كالأشعريين) ويمنح عطائه للآخرين، ويسعي علي الأرملة والمسكين ويتعهد عبده فهو أخوه أيضا. وهكذا كان رسول الله نفسه بل كان في قمة هذه الصفات."
نفس الكلام وهو أن الرجل تحدث عن مواقف للنبى(ص) فعل فيها تلك المظاهر ولكنه ذكر روايات عن تشريعات أو حكايات عن الرحمة وفعل نفس الكلام في ثالثا حيث قال:
"ثالثا: التكريم، والعفو، والكلام الطيب والمداراة وحسن الظن بعض خلقه (ص)
وكلها أيضا مظاهر للعاطفة والرحمة النبوية المهداة. فلنلاحظ هذه النصوص الشريفة:
1 روي الإمام الصادق عن جابر بن عبدالله أن رسول الله (ص) خطب الناس بعرفة فقال: «ان دماءكم واموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا،
2 وفي رواية أخري في نفس المورد قال (ص): «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله»
3 وقال (ص): «استوصوا بالنساء خيرا» «
4 وقال (ص): «إن الله تبارك وتعالي أرأف علي الإناث منه علي الذكور، وما من رجل يدخل فرحة علي امرأة بينه وبينها حرمة إلا فرحه الله تعالي يوم القيامة» «
5 وقال (ص): «ما أكرم النساء إلا كريم ولا أهانهن إلا لئيم».
6 وقال (ص): «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما»
7 وكان (ص) يوصي المقاتلين قائلا: «اغزوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا»
8 وقال (ص) لأبي هريرة: «افش السلام، واطب الكلام
وهكذا أيضا نجده (ص) يدعو لتكريم الإنسان أيا كان، وينشر السلام والاحترام بين المؤمنين، ويوصي بالنساء خيرا، ويأمر باحترام حقوق المعاهدين، والتأدب بالآداب الإنسانية للحروب وأن تعم المجتمع الإسلامي الخصال الحسني: السلام الشامل، والكلام الطيب، وصلة الأرحام والصلاة الخاشعة في الليل، والكلمة اللينة وأخيرا المداراة حتي مع من يكرهون. وما أحوجنا اليوم لمثل هذه الخصال."
وفى رابعا أيضا تحدث عن مواقف وذكر مواقف للنبى(ص) فقال:
"رابعا: الرسول الكريم يواجه بالعاطفة الإنسانية مواقف صعبة
والمستعرض لسيرة رسول الله (ص) يجدها ملأي بالعطف والحنان والمشاركة للأصحاب في كل الأعمال، الأمر الذي يثير الحماس فيهم وينسيهم مصاعب المسير ويدفعهم للتفاني فقد أخبر الخليفة الراشد عثمان عن ذلك بقوله: «إنا والله قد صحبنا رسول الله (ص) في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير»
وفي الرواية عن الصادق «إن المساكين كانوا يبيتون في المسجد علي عهد رسول الله (ص)، فأفطر النبي (ص) مع المساكين الذين في المسجد ذات ليلة عند المنبر في برمه فأكل منها ثلاثون رجلا ثم ردت إلي أزواجه شبعهن»
وكان (ص) يعمل مع أصحابه في الخندق عملا شاقا وربما صاحب ذلك الجوع الشديد.
فقد ورد عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين علي: «كنا مع النبي (ص) في حفر الخندق إذ جاءت فاطمة ومعها كسرة من خبز فدفعتها إلي النبيصلي الله عليه وآله فقال (ص) ما هذه الكسيرة؟ قالت: خبزته قرصا للحسن والحسين جئتك منه بهذه الكسيرة، فقال النبي (ص): يا فاطمة أما إنه أول طعام دخل جوف أبيك منذ ثلاث» ومن أروع مافي سيرته (ص) أنه كان يواجه المواقف الكبيرة مواجهة عقائدية وعاصفية كانت تلهب الحماس في النفوس وتدفعها نحو التضحيات الجسام.
يقول الإمام علي كما يذكر نهج البلاغة: «ولقد كنا مع رسول الله (ص) نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما، ومضيا علي اللقم، وصبرا علي مضض الألم، وجدا في جهاد العدو فلما رأي الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر»
وتحدث عن موقفين فقال:
"وسنركز علي موقفين من هذه المواقف باعتبارهما نموذجين رائعين وكل مواقفه (ص) رائعة.
الموقف الأول: حمراء الأسد
حدثنا التاريخ أن قريشا بعد أن أوقعت القتل والهزيمة بجيش المسلمين في معركة أحد رحلت منتشية بنصرها فلما بلغت محلا يقال له (الروحاء)، أدركت أنها لم تستطع أن تستغل النصر استغلالا كاملا، ولعل ذلك كان بإيحاء من بعض الشياطين، فأعدت العدة للعودة إلي المدينة واستئصال المسلمين فيها، كما صرح بذلك قائدها أبوسفيان، ووصلت هذه الأنباء إلي الرسول (ص) فبدأ بتعبئة المسلمين وحثهم علي القتال، مثيرا فيهم أقوي العواطف الرسالية، وانطلق هو معهم، فخرجوا علي ما بهم من الجراح وعلي ما أصابهم من القرح، ولكنهم كانوا كالأسود المجروحة، وهو مجروح معهم، وتحركوا حتي وصلوا إلي منطقة تدعي حمراء الأسد مستعدين للتفاني في سبيل العقيدة وعلم أبو سفيان بالخبر، وأدرك أن هذه المجموعة المتفانية لا يمكن أن تقهر حينما لقي معبدا الخزاعي فسأله ما وراءك يا معبد؟ قال: «قد والله تركت محمدا وأصحابه وهم يحرقون عليكم» وجاء في سيرة ابن هشام: «قال: محمد وأصحابه يطلبكم في جمع يتحرقون عليكم تحرقا قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا علي ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شي ء لم أر مثله قط» (وبهذا دخل الرعب في قلب أبي سفيان فأرسل مع ركب عبد القيس رسالة إلي النبي (ص) يخبره فيها أنه عاد عن قراره فقال (ص) «والذي نفسي بيده، لقد سومت لهم حجارة، لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب». ثم ردد (ص) الآية حسبنا الله و نعم الوكيل وكان بذلك يتفاعل مع تعليمات القرآن التي جاءت في سورة الأنعام والتي جاء فيها عشرات الآيات التي تلقي دروسا علي المسلمين بعد معركة أحد لتعيد لهم العزيمة،وتعبئ الطاقات، وتعمق المفاهيم، وكان من تلك الدروس قوله تعالي: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم)
والتاريخ هنا يحدثنا عن بطولات الصحابة بأروع الصور ومنها هذه الصورة: «كان ضمرة بن سعيد يحدث عن جدته التي كانت تسقي الماء في أحد، قالت سمعت النبي (ص) يقول: لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان وكان يراها تقاتل يومئذ أشد القتال، وانها لحاجزة ثوبها علي وسطها حتي جرحت ثلاثة عشر جرحا» فلما حضرتها الوفاة كنت فيمن غسلها فعددت جراحها جرحا جرحا فوجدتها ثلاثة عشر جرحا، وكانت تقول: إني لأنظر إلي ابن قميئة وهو يضربها علي عاتقها وكان أعظم جراحها، ولقد داوته سنة ثم نادي منادي النبي (ص): إلي حمراء الأسد فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم» لقد كان الحماس النبوي عظيما حتي جاء في الخبر انه كان يقول:«والذي نفسي بيده، لو لم يخرج معي أحد لخرجت وحدي»
ومن أروع ما ينقل انه (ص) أمر مناديه أن يقول: «إن رسول الله يأمركم بطلب عدوكم ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس» ليقول سعد بن خضير وبه سبع جراحات وهو يريد أن يداويها: سمعا وطاعة لله ولرسوله! فأخذ سلاحه ولم يعرج علي دواء جراحه» وهذان مسلمان جريحان يصلهما النداء فيقول أحدهما لصاحبه «والله إن تركنا غزوة مع رسول الله لغبن» وخرجا يزحفان يضعف أحدهما فيحمله الآخر علي ظهره عقبة «أي بالتناوب»
الموقف الثاني: بعد معركة *****
ونقف هنا لنتأمل علاجه لحالة الضعف التي بدت لدي بعض المسلمين تجاه خطوة قام بها النبي (ص) في أموال *****، حيث أعطي الغنائم الكثيرة لأهل مكة الذين اشتركوا معه في مطلع حياتهم الرسالية، فقاتلوا الكافرين بعد ان كانوا هم الطليعة الكافرة، وكان هذا الإعطاء ذا دوافع اجتماعية سياسية عالية تحاول تأليف القلوب وإشعارها بفارق كبير بين حياة الاستغلال الجاهلية وحياة العزة الإسلامية، وغير ذلك وهنا أشاع المنافقون بين الأنصار بأنه (ص) لقي قومه فمال إليهم، الأمر الذي ولد حالة ضعف في نفوس بعض المسلمين الأنصار. وسرت هذه الاشاعة لتؤدي إلي شبه موجة تساؤل وغضب. وهي حالة خطيرة في مجتمع يبنيه رسول الله (ص) ليحمل الرسالة الكبري إلي العالم بعقيدة راسخة. وهنا جمعهم رسول الله (ص) ودار بينه وبينهم الحوار التالي:
قال (ص): يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ فقال الأنصار: بلي! الله ورسوله أمن وأفضل. فقال (ص): ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ فرد الأنصار: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل فقال (ص): أما والله لو شئتم لقلتم ولصدقتم، ولصدقتم أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك ...وأضاف (ص) بعد هذا قوله: «أوجدتم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلي إسلامكم. ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلي رحالكم، فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا، سلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار «وهنا يتأثر الأنصار أشد التأثر وتنفجر العواطف ليعلنوا أنهم رضوا برسول الله (ص) قسما وحظا وهنا يلاحظ أن الحالة كانت خطيرة جدا لأنها لا تنجسم مع الخلفيات العقائدية التي كانوا يؤمنون بها، وكذلك لا تنسجم مع المسبقات التجريبية التي اكتسبوها خلال حياتهم الطويلة نسبيا معه (ص)، ورؤيتهم له كأعدل وأوعي ما يكون الإنسان الرسالي الواسع الرؤية والقلب وهذه الحالة تحتاج إلي علاجين: أحدهما؛ علي المدي الطويل، وهو تركيز العقيدة، ورفع كل شوائب ضعف النفس الإنسانية، والثاني؛ علي المدي الفعلي الذي ينقذ الموقف الحاد، وهو العلاج العاطفي الواعي أنه يقول لهم: «ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلي رحالكم» كل هذا بعد أن يسبق هذا الكلام العاطفي مدح للأنصار، وموقفهم من الرسالة، ويعقبه مدح وثناء لمواقفهم الرسالية، مما يفجر عواطفهم، فينطلقون باكين ليعلنوا أنهم رضوا برسول الله قسما وحظا"
لا يوجد شىء هنا اسمه الكلام العاطفى فهو كلام عدل فالرجل لم يكذب في كلامه
المؤلف محمد علي التسخيري وقد استهل الكتاب بذكر نقاط مهمة فقال :
"قبل الحديث عن هذا الجانب المهم في سيرته (ص) نري من المستحسن ذكر بعض النقاط وهي:
أولا: العاطفة جزء مهم من الشخصية الإنسانية، والواقعية، وهي من أهم صفات الإسلام العامة تقتضي الاهتمام بها، وترشيدها لتتحقق الثمار المرجوة. وهنا نجد الإمام عليا (في مجال وصفه للانسجام بين مكونات الشخصية الإنسانية، وهي العقل والفكر والعاطفة والحواس والسلوك) يقول: «العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الجوارح» «بحار الأنوار للمجلسي ج 1ص، 98، غريب الحديث للهروي، ج 1،ص 241.» ليكشف بدقة عن جذور السلوك الإنساني الواعي."
ولا وجود في الإسلام لما يسمى العاطفة وإنما خلق الرحمة وهذا الخلق إذا استعمل حسب الشرع كان جزء من العقل وهو جانب الخير في الإنسان وإذا استعمل حسب الشهوة وهى هوى النفس كان جزء من الشهوات وهو الجانب الشرير في الإنسان ومن ثم عندما تحدث الله عن رحمة الرسول(ص) بالمسلمين جعلها من عنده أى من جانب طاعة الخير فقال :
"فبما رحمة من الله لنت لهم "
وتحدث التسخيرى عن تربية النفس فقال :
"والإسلام يعمل تماما علي تربية الإنسان في كل هذه المراحل:
أ يقوم بتربية عنصر التعقل الغريزي في الإنسان فيدفعه للتأمل والتدبر والتعقل والبرهنة والنظر وأمثال ذلك.
ب يؤكد علي الأسلوب المنطقي للعملية العقلية مبتعدا بها عن ما يخل بالنتائج من أساليب تتنافي والحوار السليم.
ج يربي العنصر العاطفي ويشبعه بحب أصيل لأروع محبوب وهو (الله) تعالي الجامع لكل ما ترغب النفس فيه من كمال مطلق، فتسمو العاطفة غاية السمو.
د يعطي الشريعة الغراء الفطرية التي تنظم السلوك وترسم خارطة السعادة.
ه يربي الإرادة القوية الواعية التي تبقي أسمي من كل دافع عاطفي مهما كان متأججا للتأكد من كون العاطفة تسير في الاتجاه الصحيح أم لا، و تحتفظ بحريتها في توجيه السلوك. وبهذه الحرية تحصل المسؤولية. فلسنا مع من يصف (الإرادة) ب (العاطفة المتأججة) وإلا لوقعنا في (الجبرية) وهو الأمر المرفوض وجدانا وشرعا. ولكن يبقي للعواطف دورها المؤثر علي الإرادة والسلوك. "
وكلام التسخيرى عن دور العواطف كلام عام فالعواطف وهى أخلاق عامة كالحنان والسرور والحزن والرفق واللين والبشاشة والحب منها الحلال والحرام وليست كلها مطلوبة ومن ثم ينبغى تفصيل الأمر لأن هذا يدخل في الدين ما ليس منه
وما يتحدث عنه التسخيرى ليس كله في جانب الأفعال التى تسمى خلقية فهو يتحدث عن الأهواء والغرائز وهى الشهوات وفى هذا قال متحدثا:
ومن هنا جاء التأكيد الإسلامي علي هذه المسألة بشتي الأساليب ومنها:
1 الأساليب التوجيهية المباشرة التي تحذر من الأهواء الجامحة بل والطاغية، فيقول القرآن الكريم:
أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا «
2 الأساليب غير المباشرة باستخدام الأمثال والقصص التي تمجد الذين سيطروا علي دوافعهم وأهوائهم كالأنبياء والصالحين.
3 تقديم النماذج العملية المتمثلة في سلوك النبي (ص) والقادة الذين رباهم من أهل البيت الطاهرين والصحابة الميامين (رضي الله عنهم).
4 دعوة المسلمين بالارتفاع بحبهم إلي أسمي المستويات وهي حب الله وحب رسوله وحب أهل بيته الطاهرين وأصحابه المخلصين، وحينئذ تنتظم العواطف في منظومة رائعة منسجمة مع الفكر، وخلاقة للعمل للصالح."
وما زال التسخيرى يتكلم عن العواطف وهى كلمة مبهمة المعنى عنده وعند عامة الناس فيقول:
"ثانيا: وتتم هذه العملية التربوية للعواطف بعد تأصيل وتعميق الإيمان بالله الجامع لكل صفات الكمال والجلال، وربط الإنسان به إلي أقصي حد من جهة، وتربية تصوره عن الكون والحياة بتأكيد قيامهما علي أصول أهمها (الحق، والعدل، والحب، والرحمة) ويبقي الفكر والعاطفة يعيشان في هذه الأجواء ويكملان فيها وتأتي سيرة الرسول وسنته لتوصل هذه المعاني، وتقدم التجسيد الحسي الأمثل لها"
وقد تحدث عن وجود أربعة أصول لتلك التربية هى الحق، والعدل، والحب، والرحمة وهى كلمات بعضها كالحق والعدل معناهما واحد والحب والرحمة قد يكونان بنفس المعنى إذا كان المراد حب الله واتباع رحمة الله
ومن ثم لا يوجد شىء اسمه اركان أو قواعد اصول عامة في الإسلام لأن كل حكم من أحكام الله سواء ظنه المسلم كبيرا أو صغيرا هو اصل وقاعدة وتلك التقسيمات لأصول وقواعد وأركان هى تقسيمات بشرية ما لم ينص الله عليها كتقسيم حلال وحرام حق وباطل وهى أمور تعنى نفس المعنى وفى أصوله قال التسخيرى:
"ولشيء من التوضيح نلاحظ هذه الأصول:
أولا الحق سر الكون
يقول الراغب في مفرداته بتصرف:«الحق المطابقة والموافقة كمطابقة رجل الباب في حقه لدورانه علي إستقامة. والحق يقال علي أوجه:
الأول: يقال لوجد الشي ء بسبب ما تقتضيه الحكمة. ولهذا قيل في الله تعالي هو الحق (ثم ردوا إلي الله مولاهم الحق).
الثاني: (للموجد بحسب مقتضي الحكمة. ولهذا يقال الله تعالي كله حق (وأنه للحق من ربك).
الثالث: من الاعتقاد بالشي ء المطابق لما عليه ذلك الشي ء في نفسه. كقولنا: اعتقادنا فلان في البعث والثواب ... حق (فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق).
الرابع: للفعل والقول الواقع بحسب ما يجب وبقدر ما يجب وفي الوقت الذي يجب. كقولنا: فعلك حق (حق القول مني لأملأن جهنم)»
ويمكننا أن نستنتج من مجموع هذه الاستعمالات أن الحق يعني باختصار: الأمر الواقع أو الواقعي ونقصد بالواقع: الموجود المتعين في الواقع الموضوعي أو العالم المستقل عن الصور الذهنية، وبالواقعي الأمر الذي يطابق مقتضيات الواقع الخارجي وأروع إنطباق للحق هو في الذات الإلهية باعتبار أنها بلغت من الوضوح لدي الفطرة الإنسانية بحيث عاد الإيمان بها إيمانا بديهيا. فأنوار الله تعالي قد غمرت الوجود فلم تعد تبصر الله تعالي في كل شي ء، لذا كان هو الحق الذي لا مراء فيه والواقع الذي لا يشك فيه.
أما ما عداه تعالي من مخلوقاته وتشريعاته التي أسماها القرآن بالحق فهي كما أري اكتسبت صفة الحق من وجهتين:
أ من كونها واقعا موضوعيا وهذا كما نشاهده في قوله تعالي (يوم يقوم الناس بالحق) فيلاحظ هنا التأكيد علي الأشياء الخفية عن حس الإنسان وإعطائها صفة كونها حقا لتركيز الإيمان بها.
ب من كونها وجدت وفق مخطط إلهي عام للكون، كل جزء فيه ضروري لسير الحركة الكونية، ودخيل في تحقق الغاية المرجوة من الخلق التي أرادتها العناية الإلهية منذ ارادت أن يكون فكان، وفي هذا القسم الثاني تدخل كل الأشياء سواء كانت مخلوقات تكوينية أو قوانين تشريعية. يقول تعاليذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق) (وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق) (والوزن يومئذ الحق) (هو الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق) (قل الله يهدي للحق) (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)"
وما سبق من كرم للتسخيرى إنما هو بيان لمعانى كلمة الحق وليس شرح للأصل الذى أراده وقد تحدث عن العدل فقال :
"ثانيا العدل يسري في أنحاء الوجود
رغم أن البحث الكلامي والجدل الذي دار بين الفرق الإسلامية كان ينتهي أحيانا إلي نتائج معينة، يتغلب فيها أنصار العدل حينا، وتقوي الشبهات فيغلب أنصار رفض العدل حينا آخر، فإنه مما لا شك فيه لدي المسلم: أن العدل بأي معني من معانيه يبدأ بالعدل الإلهي بمفهومه الإجمالي الذي حدثنا عنه القرآن الكريم، وينتهي بتطبيقاته في كل ذرة من ذرات الوجود.
فالعدل العام إذن في اعتقاد المسلم قوة أخري وعامل قوي من العوامل المعنوية، التي تتدخل لصالح القضية العادلة في الكون ... والظلم بنفسه يشكل عاملا من عوامل الزوال والفناء، بغض النظر عن العوامل الأخري.
ذا بإيجاز ملخص نظرة المسلم العامة، ولا مجال للإفاضة فيها أكثر، فلنلاحظ الآيات التالية:
وأمرت لأعدل بينكم إن الله ياأمر بالعدل والإحسان وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن الله لا يظلم مثقال ذرة ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا لا ظلم اليوم شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قآئما بالقسط يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله "
وما فعله عن الحق وهو تجميع آيات عن كلمة الحق فعله في الفقرة السابقة في العدل وفعله في الفقرة القادمة عن الحب ولكنه لم يجد عددا كافيا فقال :
"ثالثا الحب إطار العلاقات بين مختلف أنحاء الوجود
ومما يعتقد به المسلم علي ضوء القرآن الكريم: أن هناك إطارا رحيما عاما شاملا لكل أنحاء الوجود، وساريا في مختلف أنواعها، فالعلاقات بين الخالق والمخلوقين يؤطرها الحب، والعلاقات بين المخلوقين المتحدي الهدف والمتأدبين بأدب السماء روحها الحب، وحتي العلاقة بين المؤمنين في الكون وبين أجزاء الكون التي لا تمتلك شعور الإنسان، حتي هذه العلاقة، يحكمها الحب المتبادل.
ومبررات هذا الحب واضحة تماما علي ضوء العقيدة الإسلامية وتعاليم القرآن، فإذا بدأنا بالإطار الودي القائم بين الإنسان وربه أدركنا أروع علاقة حب تتفاوت درجاتها، من حب يقوم علي المصلحة في طرف الإنسان ولكنه علي أي حال حب جارف، إلي حب خالص واع يعبر عن قمة في هذا المعني، أنه حب الأوصياء المخلصين والإسلام يمتلك خاصية أنه يبدأ بالأشياء ببداية بسيطة، كإقامة حب يقوم علي ذلك الأساس المصلحي، ثم يرتفع به إلي مستوي يجعله جزءا من كيان الإنسان. ودافعا ذاتيا يتحكم في سلوكه، ويوجهه لصالح القضية الإنسانية العامة.
أما الحب من طرف الباري جل اسمه، فهو وأن كان يخلق في نفوس السذج من المؤمنين نفس الإيحاءات والتصورات البشرية من الحب بين الكائنات، ولكنه في الواقع أسلوب تعبيري عن القرب من العطاء الإلهي والاختصاص بالرحمة والرضوان بصورة أكبر من ذي قبل. وإنني قد أجزم بأن الإيحاء الأول حاصل حتي عند بعض أعمق المؤمنين بالله تعالي بالنظرة الأولية: وأن هذا أيضا بنفسه مطلوب ومقصود. إذ أن الحب حرارة ولوعة وشوق، والنصوص القرآنية الكريمة تركز علي عملية خلق الانفعال وشد العواطف للباري عز وجل بأساليب، منها بل أعظمها الدوافع الناتجة من تصور الله تعالي يلقي بظلال المحبة علي الإنسان العابد .. ويمكن للقارئ الكريم التأكد من ذلك بمراجعة وجدانه الحاكم في مثل هذه الموارد.
فالنصوص تثبت الحب لأصناف المؤمنين الواعين، من أمثال (المحسنين، التوابين، المتطهرين، المتقين، الصابرين، المتوكلين، المقسطين، الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص والنصوص تثبت الحب بين أفراد المؤمنين (يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا)
والنصوص تربط بعلاقة الحب بين الإنسان والطبيعة، بعد أن يشعر الإنسان بأن الطبيعة مسخرة له ولصالحه هو، وبعد الإيحاء إليه بأن يد العناية الإلهية قد باركت في الأرض أقواتها.
وقد ورد عن النبي العظيم (ص) أنه قال عندما رجع من غزوة تبوك وعندما أشرف علي المدينة: «هذه طابة، وهذا جبل أحد يحبنا ونحبه» «كما عبر عن ذلك بأن «حب الوطن من الإيمان»
وهكذا ننتهي إلي حلقة رائعة من حلقات هذا الحب، جعلها القرآن بمثابة أجر للرسالة الإسلامية، والجهود التي بذلها الرسول الأعظم في خدمة هذه الأمة، وهي حلقة ربط الأمة كل الأمة بأهل البيت الذين هم خير مؤهل لقيادتها نحو شواطئ الأمان، والذين هم سفن النجاة، وباب حطة للعالمين».
(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربي) «وأخيرا ننتهي إلي حلقة صغري من حلقاتها، وهي المودة القائمة بين الزوجين (وجعل بينكم مودة ورحمة)
وتعتبر النصوص علي جوانب النفي مكملة للنصوص الإيجابية، فإن تلك النصوص تؤكد تارة علي انقطاع صلة الحب بين الله و العباد الذين خرجوا عن أمرربهم، من أمثال (المعتدين، الكافرين، الظالمين، من كان مختالا فخورا، من كان خوانا أثيما، المفسدين، المسرفين، الخائنين، المتكبرين، الفرحين).
وأخري علي انقطاعها بين أفراد الإنسان: الذين يهتدون بهدي الله، والذين استزلهم الشيطان إلي الكفر (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله)
النتيجة
من مجموع هذا نستخلص هذه النتيجة:
(أن المسلم يعتقد بأنه يعيش في عالم من الحب المتبادل).
ولهذه العقيدة تأثيرها الواسع الأبعاد علي خلق الأمل في نفس الإنسان: الأمل الإيجابي الدافع نحو سعادته ورقيه.
علي أننا نعترف هنا بأنا لم نف الموضوع حقه في نفسه، لكننا يجب أن نتذكر أننا لا نبحث هنا عنه إلا بمقدار ما يوضح لنا الصورة التي نريد أن نرسمها."
وبالقطع ما استخلصه الرجل خاطىء فهناك كراهية بين المسلمين ككراهية بعض الأزواج لزوجاتهم والعكس كما قال تعالى :
" فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم"
وقد بين الله وجود غل أى كراهية قلبية بين المسلمين وانها لا تزول إلا في الجنة كما قال تعالى :
"ونزعنا ما في صدورهم من غل اخوانا على سرر متقابلين"
كما أن على المسلم عليه كراهية الكفار الذين يعتدون عليه أو على مسلمين أخرين فقد حرم الله مودة هؤلاء المعتدين واعتبر من يودهم كافر مثلهم فقال تعالى:
"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا فى سبيلى وابتغاء مرضاتى تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل
وتحدث عن الرحمة منطلقا من جزء خلق وهى أنها مطلوبة في كل وقت وحين فقال:
"رابعا الرحمة: بها انطلق هذا الوجود الكائن
هذا المقطع المبارك يعتبر أروع مقطع جامع يعبر عن سر العقيدة الإسلامية، فقد وردت بعض الروايات التي تركز علي أن القرآن جمع في سورة الفاتحة، وأن سورة الفاتحة جمعت في البسملة ... وعند تحليلنا لهذا المضمون لا يسعنا إلا أن نري أنها تشير إلي: أن سورة الفاتحة إنما اعتبرت روح القرآن باعتبار أنها تحوي أصول العقيدة الإسلامية بصورة إجمالية، والقرآن قد أطر كل شي ء تحدث عنه بإطار العقيدة.
أما إذا انتقلنا إلي المرحلة الثانية، فسنجد أن البسملة نفسها شكلت روح العقيدة وأساسها، إذ ركزت علي انطلاق كل شي ء في الوجود من اسم الله تعالي في مقطعها الأول، وعن الإطار الذي تم بموجبه ذلك الانطلاق بمقطعها الأخير.
فالانطلاق: «بسم الله» وموجبه: (الرحمة التي لا حد لها).
وهذه حقيقة نجدها متمشية في مختلف المواضع من القرآن الكريم، معبرة عن مظهر من مظاهر الكمال في الذات الإلهية، مما خلق اعتقادا راسخا عند المسلم: أنه منطلق من مصدر الرحمة، ومنته إلي عالم الرحمة، وسائر في كنف هذه الرحمة، التي تتجاوز عن الكثير من موارد الانحراف التي تطرأ أحيانا علي سلوكه .. وسنجد عند استعراضنا لآثار الدعاء: الكثير من الأساليب التربوية العقائدية، التي تركز علي هذا الجانب، في الأدعية المنقولة وفي القرآن الكريم نجد الكثير من الآيات الكريمة التي تقر نصفة العزة الإلهية بالرحمة، وتنتهي بعبارة: (إنه هو العزيز الرحيم) أو بعبارة: أنه «خير الراحمين»، أو «كتب علي نفسه الرحمة» أو (وربك الغني ذو الرحمة) وهكذا الآيات الشريفةفقد جاءكم بينة من ربكم وهدي ورحمة) (إن رحمت الله قريب من المحسنين) (فانظر إلي آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها) (5)(قل يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمةالله)(الرحمن علي العرش استوي)
وحتي في أشد المواقف هيبة ورهبة تأتي صفة (الرحمن)وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) «
وهكذا يعتقد المسلم بعنصرين آخرين بالإضافة إلي عنصري الحق والعدل اللذين يعنيان التوازن أول ما يعنيان وهما: الحب والرحمة، اللذان يعنيان: الفضل من الخير والإعطاء فوق الاستحقاق وبهذا نكون قد عرفنا القوانين الأساسية المتحكمة في الكون، وهي قوانين: (الحق والعدل والحب والرحمة)، وكلها مما تتعلق به القلوب، وتنمو به العواطف والأحاسيس"
الرحمة ليست مطلوبة في كل وقت لأن الرحمة نجدها مخصوصة بين المسلمين بقوله" رحماء بينهم " ولا هى تسرى في الكون وإلا كان كيف تأكل مثلا الحيوانات بعضها البعض ؟وإلا كيف عاقب الله الأقوام الكافرة بالريح العاصفة والغرق والحاصب ؟ وإلا كيف يختبر الله الإنسان بالشر ؟
وحاول التسخيرى أن يتتبع ما سماه أصولا في السيرة النبوية ومعظمها لم يحدث منه شىء لأنه تاريخ كاذب وفى هذا قال :
"وقد قدم الإسلام رسوله الكريم أروع مثال لهذه الحقائق وكانت سنته وسيرته تعمقها في النفوس.
الرسول الكريم أعظم مظهر لهذه المعاني
إن المتتبع لسيرته وسنته (ص) يجده بوضوح أروع تجل لهذه الحقائق، (الحق والعدل، والحب، والرحمة) ليكون بحق المتمم لمكارم الأخلاق، والرحمة المهداة للبشرية.
وهذا ما سنستعرضه باختصار في العناوين والروايات الآتية ولكن قبل الدخول في هذا الاستعراض نري من الجميل أن نذكر بعض المقاطع من (نهج البلاغة) يصف فيها الإمام علي أستاذه ومعلمه ونبيه ومحبوبه رسول الله (ص) بأروع الأوصاف فيقول:
«بعث الله سبحانه محمدا رسول الله (ص) لإنجاز عدته، وإتمام نبوته، مأخوذا علي النبيين ميثاقه، مشهورة سماته، كريما ميلاده» ويقول عنه: «قائما بأمرك، مستفزا في مرضاتك، غير ناكل عن قدم، ولاواه في عزم، واعيا لوحيك، حافظا لعهدك، ماضيا علي نفاذ أمرك، حتي اوري قبس القابس،وأضاء الطريق للخابط، وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن والآثام» «
ويصف سيرته فيقول: «سيرته القصد، وسنته الرشد، وكلامه الفصل، وحكمه العدل»
ويقول عنه: «فبالغ (ص) في النصيحة، ومضي علي الطريقة، ودعا إلي الحكمة، والموعظة الحسنة»
وكذلك يقول: «حتي بعث الله محمدا (ص)شهيدا، وبشيرا ونذيرا، خير البرية طفلا، وأنجبها كهلا، وأطهر المطهرين شيمة، وأجود المستمطرين ديمة»"
الكلام هنا مخالف لعقيدة المسلمين وهى أنهم لا يفرقون بين الرسل(ص) كما في قوله تعالى " لا نفرق بين أحد من رسله"
فلا يقولوا محمد(ص) أفضل من غيره كما في القول" خير البرية طفلا، وأنجبها كهلا، وأطهر المطهرين " ثم قال
وفي موضع آخر يقول عنه: «التصديق منهاجه، والصالحات مناره، والموت غايته، والدنيا مضماره، والقيامة حلبته، والجنة سبقته ... فهو لعيشك نعمة للعالمين، ورسولك بالحق رحمة»
وكذلك يقول: «طبيب دوار بطبه، قد أحكم مراهمه، وأحمي مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه، من قلوب عمي، وآذان صم، وألسنة بكم»
«عبده ورسوله، ونجيبه وصفوته، لا يؤازي فضله، ولا يجبر فقده، أضاءت به البلاد بعد الضلالة المظلمة، والجهالة الغالبة»
«ولقد كان (ص) يأكل علي الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري ويردف خلفه» «أمين وحيه، وخاتم رسله، وبشير رحمته، ونذير نقمته» »
وما نقل عن على من هذه التزكية وهى المدح وعن غيره لا تجوز لأن الله نهى المسلمين عن تزكية الواحد نفسه أو غيره فقال :
" فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى"
ومن ثم فمن أراد مدح النبى(ص) فعليه أن يقول عنه ما قاله الله فقط وليس أى كلام من عنده
وحاول التسخيرى ذكر مواقف تؤيد أصوله الأربعة فقال :
" ولا أجد أروع من هذه الأوصاف، كما لا استطيع أن أفصل في مواقفه (ص) بين موقف وموقف، وما علي إلا أن أذكر بعض الروايات معلقا عليها لا غير وفق العناوين التالية:معتبرا إياها ظواهر عامة في حياته (ص).
أولا: الرحمة سنة عامة ومع الجميع
1 عنه (ص) «لما خلق الله الخلق، كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: ان رحمتي تغلب غضبي» وهو مفهوم شائع في الأدعية المروية عن أهل البيت .
2 وعنه (ص) «أن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة فيها تعطف الوالدة علي ولدها والوحش والطير بعضها علي بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة» » فهي سنة تكوينية، والتشريع يتوازن مع التكوين.
3 عن ابن مسعود «كأني أنظر إلي رسول الله (ص) يحكي نبيا من الانبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:
(اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون " إنها رحمة حتي بالكافرين المعتدين.
4 روي جابر بن سمرة قال: «صليت مع رسول الله (ص) صلاة الأولي ثم خرج إلي أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدي أحدهم واحدا واحدا قال: وأما أنا فمسح خدي قال فوجدت ليده بردا أو ريحا كأنما أخرجها من جؤنة عطار»
5 قال (ص) «تري المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكي عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمي» وهكذا تسود أروع وأمتن علاقات الرحمة والحسب بين المؤمنين.
6 وقال (ص) «إذا صلي أحدكم للناس فليخفف، فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلي أحدكم لنفسه فليطول ماشاء».
7 وروي مالك بن الحويرت قال: أتينا النبي (ص) ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة فظن أنا أشتقنا أهلنا، وسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه، وكان رقيقا رحيما، فقال: «ارجعوا إلي أهليكم فعلموهم ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم». »
8 «قدم علي النبي سبي، فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي، فإذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وارضعته فقال النبي (ص) أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فقال الصحابة (رض): لا وهي تقدر الا تطرحه فقال: الله أرحم بعباده من هذه بولدها»
9 بعدما جري في أحد نادته الملائكة إن شاء تطبق علي أعدائه الأخشبين فقال (ص): «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» «»
10قال رسول الله (ص) «بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني اسرائيل فنزعت موقها فسقته فغفر لها به»
11 وروي أسامة بن زيد (رض) قال: كان رسول الله يأخذني فيقعدني علي فخذه ويقعد الحسن بن علي علي فخذه الآخر ثم يضمهما ثم يقول: «اللهم ارحمهما فإني أرحمهما»
12 وصلي (ص) علي جنازة فقال: «اللهم اغفر له وارحمه»
13 وكان يقول: «أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة»
14 وكان يقول: «رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشتري وإذا اقتضي»
15 وقال (ص): «لا يرحم الله من لا يرحم الناس» »
16 وقيل يا رسول الله ادع علي المشركين قال: «إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة»
وهكذا تأتي رحمة الله الإسلام لتشمل: الخلق كلهم، بل الكون كله (وهو المفهوم من عبارة البسملة في القرآن بعد حديثها عن انطلاقة كل شي ء باسم الله، ووصفه تعالي بالرحمن الرحيم) وتشمل حتي الكافرين المعتدين وتسري في كل العلاقات الاجتماعية الإسلامية بين المؤمنين، وتتركز علي الولدان والشباب وتصل إلي الحيوان، فهي إذن تشمل كل شي ء. والمسلم الواعي هو الإنسان الرحيم بكل شي ء"
التسحيرة في العنوان السابق قال أنه سيبتحدث عن مواقف تدل على أفعال الرحمة التى فعلها النبى(ص) وما استشهد به من الروايات ليس منها دليل على فعل قام به رحمة سوى رقمى 3و4 والأربعة عشر الأخرى هى روايات في تشريعات وحكايات تدل على رحمة غيره
وفى ثانيا تحدث عما سماه مظاهر الرحمة فقال:
"ثانيا: البر والإحسان والإيثار مظاهر للرحمة:
وهي أمور تتسع اتساع الرحمة نفسها من خلال سنة الرسول الأكرم وسيرته: فلنلاحظ هذه الباقة من الأحاديث:
1 قال (ص): «في كل ذات كبد رطبة أجر» وقد استند الإمام زين العابدين لهذا الحديث فجوز إطعام الحرورية من الهدي رغم أنهم كانوا من الد أعداء أهل البيت .
2 وقال (ص): «كل معروف صدقة».
3 وعن أبي ذر (رض): قال لي النبي (ص): «لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تلقي أخاك بوجه طلق»
4 وقال (ص): المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة،
5 قال (ص): «المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن: يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه»
6 وقال رسول الله (ص) «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أوقل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم»
7 وقال (ص) «طعام الاثنين كافي الثلاثة وطعام الثلاثة كافي الأربعة»
8 وقال (ص): «أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة»
9 وقال (ص): «الساعي علي الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله»
10 وقال (ص): «إخوانكم خولكم»
11 وقال (ص): «من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه»
وبهذا يتحول المسلم المتبع لرسول الله (ص) إلي وجود بشري محسن. يحسن لكل ذات كبد رطبة إنسانا كان أم حيوانا، ويصنع المعروف أي معروف حتي ولو كان قليلا، يعيش هم أخيه ويشعر بآلامه وآماله، وينظر إليه مرآة له،ويقاسمه لقمة عيشه (كالأشعريين) ويمنح عطائه للآخرين، ويسعي علي الأرملة والمسكين ويتعهد عبده فهو أخوه أيضا. وهكذا كان رسول الله نفسه بل كان في قمة هذه الصفات."
نفس الكلام وهو أن الرجل تحدث عن مواقف للنبى(ص) فعل فيها تلك المظاهر ولكنه ذكر روايات عن تشريعات أو حكايات عن الرحمة وفعل نفس الكلام في ثالثا حيث قال:
"ثالثا: التكريم، والعفو، والكلام الطيب والمداراة وحسن الظن بعض خلقه (ص)
وكلها أيضا مظاهر للعاطفة والرحمة النبوية المهداة. فلنلاحظ هذه النصوص الشريفة:
1 روي الإمام الصادق عن جابر بن عبدالله أن رسول الله (ص) خطب الناس بعرفة فقال: «ان دماءكم واموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا،
2 وفي رواية أخري في نفس المورد قال (ص): «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله»
3 وقال (ص): «استوصوا بالنساء خيرا» «
4 وقال (ص): «إن الله تبارك وتعالي أرأف علي الإناث منه علي الذكور، وما من رجل يدخل فرحة علي امرأة بينه وبينها حرمة إلا فرحه الله تعالي يوم القيامة» «
5 وقال (ص): «ما أكرم النساء إلا كريم ولا أهانهن إلا لئيم».
6 وقال (ص): «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما»
7 وكان (ص) يوصي المقاتلين قائلا: «اغزوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا»
8 وقال (ص) لأبي هريرة: «افش السلام، واطب الكلام
وهكذا أيضا نجده (ص) يدعو لتكريم الإنسان أيا كان، وينشر السلام والاحترام بين المؤمنين، ويوصي بالنساء خيرا، ويأمر باحترام حقوق المعاهدين، والتأدب بالآداب الإنسانية للحروب وأن تعم المجتمع الإسلامي الخصال الحسني: السلام الشامل، والكلام الطيب، وصلة الأرحام والصلاة الخاشعة في الليل، والكلمة اللينة وأخيرا المداراة حتي مع من يكرهون. وما أحوجنا اليوم لمثل هذه الخصال."
وفى رابعا أيضا تحدث عن مواقف وذكر مواقف للنبى(ص) فقال:
"رابعا: الرسول الكريم يواجه بالعاطفة الإنسانية مواقف صعبة
والمستعرض لسيرة رسول الله (ص) يجدها ملأي بالعطف والحنان والمشاركة للأصحاب في كل الأعمال، الأمر الذي يثير الحماس فيهم وينسيهم مصاعب المسير ويدفعهم للتفاني فقد أخبر الخليفة الراشد عثمان عن ذلك بقوله: «إنا والله قد صحبنا رسول الله (ص) في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير»
وفي الرواية عن الصادق «إن المساكين كانوا يبيتون في المسجد علي عهد رسول الله (ص)، فأفطر النبي (ص) مع المساكين الذين في المسجد ذات ليلة عند المنبر في برمه فأكل منها ثلاثون رجلا ثم ردت إلي أزواجه شبعهن»
وكان (ص) يعمل مع أصحابه في الخندق عملا شاقا وربما صاحب ذلك الجوع الشديد.
فقد ورد عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين علي: «كنا مع النبي (ص) في حفر الخندق إذ جاءت فاطمة ومعها كسرة من خبز فدفعتها إلي النبيصلي الله عليه وآله فقال (ص) ما هذه الكسيرة؟ قالت: خبزته قرصا للحسن والحسين جئتك منه بهذه الكسيرة، فقال النبي (ص): يا فاطمة أما إنه أول طعام دخل جوف أبيك منذ ثلاث» ومن أروع مافي سيرته (ص) أنه كان يواجه المواقف الكبيرة مواجهة عقائدية وعاصفية كانت تلهب الحماس في النفوس وتدفعها نحو التضحيات الجسام.
يقول الإمام علي كما يذكر نهج البلاغة: «ولقد كنا مع رسول الله (ص) نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما، ومضيا علي اللقم، وصبرا علي مضض الألم، وجدا في جهاد العدو فلما رأي الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر»
وتحدث عن موقفين فقال:
"وسنركز علي موقفين من هذه المواقف باعتبارهما نموذجين رائعين وكل مواقفه (ص) رائعة.
الموقف الأول: حمراء الأسد
حدثنا التاريخ أن قريشا بعد أن أوقعت القتل والهزيمة بجيش المسلمين في معركة أحد رحلت منتشية بنصرها فلما بلغت محلا يقال له (الروحاء)، أدركت أنها لم تستطع أن تستغل النصر استغلالا كاملا، ولعل ذلك كان بإيحاء من بعض الشياطين، فأعدت العدة للعودة إلي المدينة واستئصال المسلمين فيها، كما صرح بذلك قائدها أبوسفيان، ووصلت هذه الأنباء إلي الرسول (ص) فبدأ بتعبئة المسلمين وحثهم علي القتال، مثيرا فيهم أقوي العواطف الرسالية، وانطلق هو معهم، فخرجوا علي ما بهم من الجراح وعلي ما أصابهم من القرح، ولكنهم كانوا كالأسود المجروحة، وهو مجروح معهم، وتحركوا حتي وصلوا إلي منطقة تدعي حمراء الأسد مستعدين للتفاني في سبيل العقيدة وعلم أبو سفيان بالخبر، وأدرك أن هذه المجموعة المتفانية لا يمكن أن تقهر حينما لقي معبدا الخزاعي فسأله ما وراءك يا معبد؟ قال: «قد والله تركت محمدا وأصحابه وهم يحرقون عليكم» وجاء في سيرة ابن هشام: «قال: محمد وأصحابه يطلبكم في جمع يتحرقون عليكم تحرقا قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا علي ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شي ء لم أر مثله قط» (وبهذا دخل الرعب في قلب أبي سفيان فأرسل مع ركب عبد القيس رسالة إلي النبي (ص) يخبره فيها أنه عاد عن قراره فقال (ص) «والذي نفسي بيده، لقد سومت لهم حجارة، لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب». ثم ردد (ص) الآية حسبنا الله و نعم الوكيل وكان بذلك يتفاعل مع تعليمات القرآن التي جاءت في سورة الأنعام والتي جاء فيها عشرات الآيات التي تلقي دروسا علي المسلمين بعد معركة أحد لتعيد لهم العزيمة،وتعبئ الطاقات، وتعمق المفاهيم، وكان من تلك الدروس قوله تعالي: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم)
والتاريخ هنا يحدثنا عن بطولات الصحابة بأروع الصور ومنها هذه الصورة: «كان ضمرة بن سعيد يحدث عن جدته التي كانت تسقي الماء في أحد، قالت سمعت النبي (ص) يقول: لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان وكان يراها تقاتل يومئذ أشد القتال، وانها لحاجزة ثوبها علي وسطها حتي جرحت ثلاثة عشر جرحا» فلما حضرتها الوفاة كنت فيمن غسلها فعددت جراحها جرحا جرحا فوجدتها ثلاثة عشر جرحا، وكانت تقول: إني لأنظر إلي ابن قميئة وهو يضربها علي عاتقها وكان أعظم جراحها، ولقد داوته سنة ثم نادي منادي النبي (ص): إلي حمراء الأسد فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم» لقد كان الحماس النبوي عظيما حتي جاء في الخبر انه كان يقول:«والذي نفسي بيده، لو لم يخرج معي أحد لخرجت وحدي»
ومن أروع ما ينقل انه (ص) أمر مناديه أن يقول: «إن رسول الله يأمركم بطلب عدوكم ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس» ليقول سعد بن خضير وبه سبع جراحات وهو يريد أن يداويها: سمعا وطاعة لله ولرسوله! فأخذ سلاحه ولم يعرج علي دواء جراحه» وهذان مسلمان جريحان يصلهما النداء فيقول أحدهما لصاحبه «والله إن تركنا غزوة مع رسول الله لغبن» وخرجا يزحفان يضعف أحدهما فيحمله الآخر علي ظهره عقبة «أي بالتناوب»
الموقف الثاني: بعد معركة *****
ونقف هنا لنتأمل علاجه لحالة الضعف التي بدت لدي بعض المسلمين تجاه خطوة قام بها النبي (ص) في أموال *****، حيث أعطي الغنائم الكثيرة لأهل مكة الذين اشتركوا معه في مطلع حياتهم الرسالية، فقاتلوا الكافرين بعد ان كانوا هم الطليعة الكافرة، وكان هذا الإعطاء ذا دوافع اجتماعية سياسية عالية تحاول تأليف القلوب وإشعارها بفارق كبير بين حياة الاستغلال الجاهلية وحياة العزة الإسلامية، وغير ذلك وهنا أشاع المنافقون بين الأنصار بأنه (ص) لقي قومه فمال إليهم، الأمر الذي ولد حالة ضعف في نفوس بعض المسلمين الأنصار. وسرت هذه الاشاعة لتؤدي إلي شبه موجة تساؤل وغضب. وهي حالة خطيرة في مجتمع يبنيه رسول الله (ص) ليحمل الرسالة الكبري إلي العالم بعقيدة راسخة. وهنا جمعهم رسول الله (ص) ودار بينه وبينهم الحوار التالي:
قال (ص): يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ فقال الأنصار: بلي! الله ورسوله أمن وأفضل. فقال (ص): ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ فرد الأنصار: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل فقال (ص): أما والله لو شئتم لقلتم ولصدقتم، ولصدقتم أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك ...وأضاف (ص) بعد هذا قوله: «أوجدتم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلي إسلامكم. ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلي رحالكم، فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا، سلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار «وهنا يتأثر الأنصار أشد التأثر وتنفجر العواطف ليعلنوا أنهم رضوا برسول الله (ص) قسما وحظا وهنا يلاحظ أن الحالة كانت خطيرة جدا لأنها لا تنجسم مع الخلفيات العقائدية التي كانوا يؤمنون بها، وكذلك لا تنسجم مع المسبقات التجريبية التي اكتسبوها خلال حياتهم الطويلة نسبيا معه (ص)، ورؤيتهم له كأعدل وأوعي ما يكون الإنسان الرسالي الواسع الرؤية والقلب وهذه الحالة تحتاج إلي علاجين: أحدهما؛ علي المدي الطويل، وهو تركيز العقيدة، ورفع كل شوائب ضعف النفس الإنسانية، والثاني؛ علي المدي الفعلي الذي ينقذ الموقف الحاد، وهو العلاج العاطفي الواعي أنه يقول لهم: «ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلي رحالكم» كل هذا بعد أن يسبق هذا الكلام العاطفي مدح للأنصار، وموقفهم من الرسالة، ويعقبه مدح وثناء لمواقفهم الرسالية، مما يفجر عواطفهم، فينطلقون باكين ليعلنوا أنهم رضوا برسول الله قسما وحظا"
لا يوجد شىء هنا اسمه الكلام العاطفى فهو كلام عدل فالرجل لم يكذب في كلامه