نقد كتاب تحكيم الحكمين
الكتاب عبارة عن سؤال للمفتى أحمد الخليلي عن تحكيم الحكمين فى خلاف الزوجين وقد استهل الكتاب بالسؤال وهو :
"أحمد بن حمد بن سليمان الخليلي المفتي العام ... فكثيرا ما تعاني المحاكم من دعاوي الشقاق بين الزوجين وفي كثير من الأحيان مما يظهر من مجريات الأحداث يكون من المرأة إما لبغض فيها أو مكابرة إلى غير ذلك مما يؤدي إلى عجز المحكمة عن علاج الموضوع وردهما إلى العشرة السليمة وهنا يأتي البحث هل إذا لم يظهر للمحكمة الإضرار من الزوج بل الشقاق من الزوجة وعدم تقبلها الرجوع إلى زوجها لها أن تحكم بالتفريق؟ وفي حالة الحكم بالتفريق ماذا يترتب علية بالنسبة للصداق؟ وهل الحاكم يطلق أم يجبر الزوج على الطلاق؟
وهل تحكيم الحكمين أمر واجب أم لا؟ فإن قلتم بالوجوب وطلق القاضي قبل تحكيمهما فهل ينقض حكمه أم لا؟
وهل يطلقان إن رأيا ذلك أم يطلق القاضي بناء على رأيهما؟
وهل هما حكمان أم وكيلان؟
وهل قصة ثابت بن قيس وزوجه كان الخلع فيهما حكما من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أم إرشادا فقط إذ وردت بعض الروايات بصيغة الأمر "خذ الحديقة" وفي بعضها "أترضى" وتردين عليه حديقته".
وإن كان الأمر يقتضي الوجوب وكان الشقاق منها أو تعذرت معرفته وقلتم بالتفريق فهل ترد عليه ما أخذت منه جميعه أو بعضه أم لا ترد كونه نال منها، ولكل موطؤة صداق؟
وهل نفس حكم القاضي بالتطليق يعتبر إمضاء؟ أم لا بد من مخاطبتها كأن يقول لها "أنت طالق، أو أنت مطلقة بأمر الشرع"؟
فإن قلتم بلزوم مخاطبتها بذلك فهل إذا كتب القاضي مثلا "حكمت بتطليق المدعية أو المدعي عليها من زوجها طلقة بائنة للشقاق وتلا هذا اللفظ في جلسة النطق بالحكم دون أن يخاطبها يكون كافيا ويعتبر بمثابة مخاطبتها أم لا بد من ذلك؟وإذا بحث القاضي عن مراده في كتابه هذه هل أراد إمضاء الطلاق أم الحكم به فقط ويمضي في وقت لاحق بناء على أن في التقاضي ثلاث درجات وحكمه في الأصل قابل للاستئناف والنقض وأجاب بأنه قصد إمضاء الطلاق من نفس الوقت الذي تلا فيه حكمه فهل يعتبر فعله هذا صحيحا أم لا؟
نرجو التكرم بإيضاح ذلك وتبصرينا بالرأي المختار مع تمنينا لكم من الله جل وعلا دوام التوفيق والسعادة في الدارين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته إسحاق بن أحمد"
وكان الجواب عليه كالتالى:
"الجواب:
1- بعد حمد الله تعالى وشكره وإزجاء أكمل الصلاة وأتم التسليم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه، اعلم أن العلاقة الزوجية علاقة انسجام ووئام لأنها رابطة بين قلبين وواصلة بين روحين فهي تشد روح كل واحد من الزوجين إلى الآخر، وتعطف عليه قلبه قبل أن تجتذب إليه جسمه، وهذا ما دل عليه قوله تعالى: { وجعل بينكم مودة ورحمة } بل هي امتزاج بين المشاعر واختلاط بين الأحاسيس، لذلك كان كل واحد من الزوجين بعضا من حقيقة يشملهما معناها كما أنبأ الله تعالى بذلك في قوله: { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } فإنه تجسيد لهذا المعنى البليغ الذي يصور هذه العلاقة المقدسة أتم تصوير ويؤكده تسميتهما زوجين، فإن الزوج هو ما يكون به التكامل والاتحاد بين فردين، فإن كل واحد منهما مكمل للآخر ومكمل به بما يشتارانه معا بوصالهما من طيب الحياة ونعيمها وبقدر هذه النعمة وجسامتها يتفاقم البلاء عندما يتكدر هذا الصفو وتسوء هذه العلاقة بينهما لما يكون من تنافر في طباعهما وحدة في مزاجهما، فلا تلبث حياتهما أن تتحول من وفاق إلى شقاق ومن نعيم إلى جحيم فلا يشتاران منها إلا شوكا وعلقما وبقدر عمق هذه العلاقة ومتانتها تكون مشكلاتها أعمق أثرا وأكثر تعقيدا وأصعب على من يسعى لحلها، فكثيرا ما يلتبس الأمر بسبب هذا الاختلاط في الحياة الزوجية الذي يجعل من الزوجين حقيقة واحدة حتى يتعذر أو يتعسر التمييز بين المسيء والمحسن منهما لأن ما يفضيه كل واحد منهما إلى الآخر لا يكاد يطلع عليه غيرهما، إلا أن صلة القربى التي تكتنفهما من أهليهما تمكن الأهلين أكثر من غيرهما من اكتشاف الغوامض واستظهار الخفايا، لذلك جاء التشريع الرباني العظيم متوائما مع هذا الواقع عندما أمر الله تعالى في قوله { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } بإشراك أسرتيهما في حل نزاعهما بتمثيل كل أسرة بحكم منها ليستقصي الحكمان أسباب الخلاف ويسبرا مثار الشقاق ويستكشفا عمقه وأبعاده لينظرا فيما إذا كان داؤهما ينجع فيه الدواء فيعالجانهما بما هو أشفى لعلتهما وأقطع لدابرها ليعود إليهما الصفو بعد الكدر والألفة بعد النفرة، أما إن استحكم الداء فيهما حتى استعصى على العلاج ولم يزده مبضعهما إلا استفحالا وانتشارا فإن الحل الوحيد في هذه الحالة هو الانفصال لإراحتهما من معاناة دائمة ونكد لا ينتهي إلى حد "وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته" وهو وإن كان مرا مذاقه ثقيلا وقعه فإن الضرورة تلجئ إليه كما تلجئ المريض بداء عضوي إلى بتر عضوه المصاب الذي استفحل داؤه فخيف منه على سائر الجسم لأجل المحافظة على سلامة سائر الأعضاء."
أشار الخليلى هنا إلى أسس الحياة الزوجية وإلى أن تحكيم الحكمين هو حل قبل الانفصال إن لم يؤدى للتصالح وفات عليه أن يشير إلى الحل ألأول الذى شرعه الله وهو :
قوامة الزوج والتى وضعها لحل نشوز الزوجة وهو عصيانها لحكم أو أكثر من أحكام الله بالوعظ ثم هجر المضاجع ثم الضرب نهاية المطاف
ومن ثم لا يمكن أن يسير الوضع إلا كما بين الله وهو أولا الحل الداخلى عن طريق القوامة ثم ثانيا الحل الخارجى إذا لم ينفع الحل الداخلى بين الزوجين
وحدثنا الخليلى عن اختلاف الفقهاء فى الحكمين فقال:
هذا وقد اختلف أهل العلم في هذين الحكمين وصفة وظيفتهما الشرعية أهما محكمان في أمر الزوجين أم هما شاهدان عليهما وموكلان عنهما؟ وبناء على كونهما محكمين فإن لهما بل عليهما أن يفرقا بين الزوجين إن رأيا تعذر الوفاق بينهما كما أن عليهما أن يسعيا إلى الجمع في حال رجائهما الألفة بعد النفرة والوئام بعد الخصام، وأما على القول بأن وظيفتهما لا تعدو الشهادة على الزوجين أو الوكالة عنهما فلا يسوغ لهما التفريق بينهما لأن بعثهما لا يعدو أن يكون للإصلاح بينهما وتحديد وسائل كبح جماح المشاقق منهما كقطع النفقة عن المرأة حتى تستقيم بعد اعوجاجها وتحسن معاملة بعلها، وفرض النفقة على الزوج مع عدم تمكينه من المرأة إلى أن ينقاد لمطلب الشرع في رفع الإساءة عنها وإمساكها بالمعروف كما أمره الله تعالى، ولكل واحد من القولين نصراء من أهل العلم سلفا وخلفا فالقول الأول محكي عن عدد من الصحابة فقد روي قضاء عن الخلفاء الثلاثة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وهو مذهب ابن عباس، وقال به سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي سلمة والقاضي شريح والنخعي والشعبي وإليه ذهب مالك والشافعي –في أحد قوليه– والأوزاعي وإسحاق وأحمد –في إحدى الروايتين عنه–، وبالغ ابن كثير حيث قال: "وقد أجمع العلماء على أن الحكمين لهما الجمع والتفرقة"، ودعوى الإجماع مردودة بما نقله ابن كثير نفسه -كما رواه من قبله ومن بعده- من الرأي المخالف لهذا عن بعض السلف، وسيأتي ذلك إن شاء الله، وقال ابن عبد البر: "أجمعوا أن قولهما نافذ في الجمع بينهما بغير توكيل من الزوجين، واختلفوا في الفرقة بينهما هل تحتاج إلى توكيل من الزوج أو لا؟".
ومما جاء في هذا ما أخرجه مالك في "المدونة" والشافعي في "الأم" وعبد الرزاق في مصنفه وابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما وسعيد بن منصور في سننه وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في سننه بأسانيدهم المتعددة عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال: "شهدت عليا وجاءته امرأة وزوجها مع كل واحد منهما فئام من الناس، فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما فقال علي للحكمين: "أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا" فقالت المرأة: "رضيت بكتاب الله فيما علي ولي فيه" فقال الرجل: "أما الفرقة فلا" فقال علي: "كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به".
وفي "مصنف عبد الرزاق" قال: أخبرني معمر عن ابن طاوس عن عكرمة بن خالد عن ابن عباس قال: "بعثت أنا ومعاوية حكمين" قال معمر بلغني أن عثمان بعثهما وقال: "إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما" ورواه ابن جرير الطبري في تفسيره عن عبد الرزاق بإسناده المتقدم وروى ابن جرير أيضا عن محمد ابن كعب القرظي أن عليا كرم الله وجهه قال: "الحكمان بهما يجمع الله وبهما يفرق".
وروى الشافعي في "الأم" والبيهقي في "السنن الكبرى" بإسنادهما إلى ابن أبي مليكة أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة فقالت: "اصبر لي وأنفق عليك" فكان إذا دخل عليها قالت: "أين عتبة بن ربيعة؟ أين شيبة بن ربيعة؟ فقال على يسارك في النار إذا دخلت". فشدت عليها ثيابها فجاءت عثمان بن عفان فذكرت له ذلك فأرسل ابن عباس ومعاوية فقال ابن عباس لأفرقن بينهما وقال معاوية ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف قال فأتاهما فوجدهما قد شدا عليهما أثوابهما وأصلحا أمرهما ورواه ابن جرير الطبري باختصار.
وروى البيهقي بإسناده إلى علي بن أبي طلحة أن ابن عباس قال: "إن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز" وأخرج الطبري في تفسيره والبيهقي في السنن عن الشعبي أن امرأة نشزت عن زوجها فاختصموا إلى شريح فقال شريح: "ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها" فنظر الحكمان في أمرهما ورأيا أن يفرقا بينهما فكره ذلك الرجل فقال شريح: "ففيم كانا اليوم؟" وفي رواية البيهقي: "ففيم كنا فيه اليوم؟" وأجاز أمرهما وروى الطبري في تفسيره عن إبراهيم النخعي أنه قال: "ما حكما من شيء فهو جائز، إن فرقا بينهما بثلاث تطليقات أو تطليقتين فهو جائز، وإن فرقا بتطليقة فهو جائز، وإن حكما عليه بهذا من ماله فهو جائز، فإن أصلحا فهو جائز، وإن وضعا من شيء فهو جائز".
وعن سعيد بن جبير أنه قال: "فما حكما من شيء فهو جائز"وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: "إن شاء الحكمان أن يفرقا فرقا، وإن شاءا أن يجمعا جمعا".
وأما القول الثاني فقد ذهب إليه جماعة منهم الحسن وقتادة وعطاء وابن زيد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وداود وهو المشهور عن أحمد وعليه عول الشافعي في "الأم"، وحكي عن أبي ثور واختاره الطبري في تفسيره والبيهقي في سننه وبه قال أصحابنا.
ومما جاء في هذا ما رواه الطبري في تفسيره قال: حدثنا بشار قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة عن الحسن – وهو قول قتادة – أنهما قالا: إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه، وأما الفرقة فليست في أيديهما، ولم يملكا ذلك ورواه البيهقي في سننه بمعناه عن قتادة عن الحسن"
من الكلام السابق نجد رأيين:
الأول أن قول الحكمين إصلاحا أو انفصالا واجب
الثانى أن قول الحكمين يكون للإصلاح فقط
وقد نصر الخليلى القول الأول بأن قول الحكمين واجب فى الإصلاح وواجب فى الانفصال فقال :
"والقول الأول هو أقوى حجة فيما أرى لأنه يعتضد بوجوه:
أولها: أن الله سمى المبعوثين حكمين، والتحكيم يقتضي تفويض المحكم وإسلاس القياد له والرضى بقراره ونفاذ قوله بين المتخاصمين وهو مما ألفته الأمم ومن بينها العرب قبل أن يكرمهم الله بالإسلام ويقضي على خصوماتهم بحكم القرآن إذ لم تكن لهم محاكم منصوبة لفض نزاعاتهم ولكنهم – مع ما عرف عنهم من الاحتكام في خصوماتهم إلى سيوفهم – كانوا ينزعون أحيانا منزع العقل ويفكرون في العواقب فيجعلون أمرهم إلى عقلائهم الذين عرفوا بسداد الرأي وتوقد البصيرة والتوسط بين الأطراف في دفع الخصومات ولا يجدون غضاضة في النزول إلى حكمهم والتزام ما يفرضونه عليهم ولو كان على غير هواهم وهو مما تأصل في عاداتهم وسجله التاريخ عن أقدميهم حتى كانوا يوصون بذلك أبناءهم فيما لو وقع بينهم نزاع، وقد يعينون لهم من يحتكمون إليه من بعدهم كما أوصى نزار بن معد ابن عدنان أبناءه الأربعة – وهم ربيعة ومضر وإياد وأنمار – إن اختلفوا بعده أن يحتكموا إلى ملك نجران الأفعى الجرهمي وقد فعلوا ذلك، واحتكم عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة إلى هرم بن سنان العبسي، وعندما تشاجرت بطون قريش في رفع الحجر الأسود إلى محله عندما جددوا بناء الكعبة المشرفة فكادت سيوفهم تنتضى ودماؤهم تسيل في البلد الحرام تراجعوا فاتفقوا على تحكيم أول داخل من باب بني شيبة فكان النبي - صلى الله عليه وسلم – هو الذي ساقه القدر الإلهي لرأب صدعهم وصون دمائهم وأرواحهم بقراره العادل الأمين الذي انقادوا له جميعا."
وكلام الخليلى الذى استشهد فيه بوقائع الجاهلية على حكم فى الإسلام لا يجوز سواء سمى ذلك شرع من قبلنا أو سمى وهو الحق شرع الكفار لأن الحكم يكون حكم الله كما قال تعالى :
" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"
وانتقل الخليلى إلى كون الحكم غسر الشاهد فقال:
"ومعنى هذا أن الحكم غير الشاهد، فلكل واحد منهما معناه الذي ينساق إلى الذهن تطابقا مع اسمه ووظيفته الخاصة التي يقوم بها في عمله إذ الشاهد لا يعدو أن يكون مصورا للقضية المتنازع فيها بحسب ما سمع وأبصر وناقلا إلى الحكم حقيقتها الغائبة في حال الحكم وأما الحكم فإنه يقضي بين المتخاصمين بما يراه عدلا وصوابا بعد أن يسبرها وتتكشف له حقيقتها إما باعتراف المدعى عليه أو بالبينة العادلة التي تعضد دعوى المدعي أو بما يراه بناظريه في حال الخصومة بين المتداعيين وعليه فإن من جعل الحكمين في الآية شاهدين وسلبهما وصف التحكيم المعروف عند العرب الذين نزل بلغتهم القرآن قد أبعد النجعة لأن الله خاطب العرب بلسانهم المعهود وشرفهم إذ جعل لغتهم وعاء كلامه المنزل للهداية والإعجاز فلا يسوغ حمل شيء من ألفاظ كتابه على خلاف المعنى المعهود في التخاطب بين العرب اللهم إلا أن تدل القرينة على إرادة معنى مجازي آخر وهو أسلوب معهود عند العرب أيضا ولكن أنى لهم بالقرينة الصارفة للفظ الحكمين عن حقيقته المعهودة؟.
وقد أجاد القرطبي حيث قال بعد ذكره نص ما في الآية: "وهذا نص من الله سبحانه بأنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى وللحكم اسم في الشريعة ومعنى فإذا بين الله كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ – فكيف لعالم – أن يركب معنى أحدهما على الآخر."
قطعا لا خلاف فى كون الحكمين ليسا شهودا مع أن الشهادة قد تكون حكما كما فى قضية يوسف(ص) وامرأة العزيز فالرجل الذى مع زوجها لم يشاهد شىء بينهما لأن ما جرى جرى خلف الأبواب المغلقة ومع هذا سمى الله حكمه شهادة فقال " وشهد شاهد من أهلها "
ثانيها: أن هذا القول محكي عن أربعة من الصحابة ثلاثة منهم من الخلفاء الراشدين ولم أجد أثرا عن صحابي قط يدل على خلافه ولا ريب أنه إذا تعارضت الأقوال فإن قول الصحابة أولى بالاتباع إذا لم يختلفوا لأنهم أعلم بكتاب الله وبهدي رسوله (ص)وهو معنى ما حكي عن أبي يعقوب الوارجلاني أنه قال مشيرا إلى قبر نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام "لا تقليد إلا لصاحب هذا القبر وأما الصحابة فهم أولى بالاتباع لعهدهم برسول الله (ص)وأما التابعون فهم رجال ونحن رجال"
الخطأ فى الكلام الخليلة هو أن حكم الآثار فى قول الله وقول الله هو الفيصل وأما الآثار المروية فيضرب عرض الحائط فهى ليست عن النبى(ص) وحتى لو كانت عن الخلفاء فما الذى يثبت وقوعها ؟
إنها أحاديث آحاد وهى فى الغالب لم تقع لمخالفتها كلام الله فى كون الطلاق هو حق الزوج وليس حق الحكمين كما قال تعالى :
"فإن طلقها"
ثم قال :
ثالثها: أن بعث الحكمين إنما شرع في الكتاب العزيز لاستئصال شأفة الخصام والشقاق ونزع فتيل الفتنة الهوجاء بين الزوجين أن يشب ضرامها وينفجر بركانها ومن المعلوم أن المصلحة لا تكون دائما في الجمع بينهما فقد تتأصل علتهما ويستحكم داؤهما حتى لا يكون له دواء إلا التفرق ولذلك شرع الطلاق لرفع الحرج عنهما وقد يكون بقاء العلاقة الزوجية أوغر للصدور وأنكى للجراح وأبقى للخصومة عندما يبلغ تنافرهما حدا يتعذر معه الوفاق بحيث لا يكون إلا مدعاة للاحتكاك المهيج للفتنة فماذا عسى أن يكون قرارهما في مثل هذه الحالة أيلزمان أن يجمعا بين من لا يريان جمعهما إلا مدعاة لمزيد الخصومة والشقاق واستحكام البغضاء والكراهية؟ أوليس الواجب في مثل هذه الحالة أن يبتا بما يريانه أقرب إلى العدل وأوفق مع التقوى وأرضى لله سبحانه ثم للضمير الحي ولا ريب أن الشريعة تدور مع جلب المصالح ودرء المفاسد وحيث ما كانت المصلحة فثم شرع الله كما قال ابن القيم"
والكلام هو تكرار لكلام سابق ثم قال :
"رابعها: أن النص على أن يكون أحدهما من أهله والآخر من أهلها دليل على أن الحكمة في ذلك مراعاة استقصاء أسباب الوفاق والشقاق لأن الأهلين أمكن في ذلك من غيرهم إذ بإمكان الأقربين أن يطلعوا على مكامن الداء ومناشيء الشقاق التي لا يطلع عليها الأبعدون ومن خلال ذلك يمكنهم سبر أحوال الزوجين ودراسة أسباب الشقاق بينهما والنظر في إمكان الوفاق أو تعذره والحكم كالطبيب لابد له من استقصاء العلة لاستئصالها وعلاج كل أحد بما يلائمه فإذا رأى الحكمان أن اجتماعهما مع تنافر طباعهما هو منشأ علتهما المزمنة فلا مجال للعلاج في مثل ذلك إلا بالانفصال إذ ليس من الحكمة أن يعالج الداء بغير دوائه وفرضهما بقاء العلاقة الزوجية بينهما في هذه الحالة لا يعدو أن يكون من علاج الداء بالداء وأنى بمثل ذلك يكون الشفاء؟."
والحكمان ليسوا هنا بمقام الطبيب وليسوا بمقام القاضى لسبب بسيط هو أن أول أية الحكمين يقول:
"وإن خفتم شقاق بينهما "
فسبب استدعاء الحكمين هو الخوف من الطلاق ومن ثم فالحكمين يأتيان لسبب واحد وهو الإصلاح حتى لا يقع الطلاق كما قال تعالى :
"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا"
ولذا لم يذكر الله غير الإصلاح فلو كان هناك تفريق لذكره مع الإصلاح فالحكمان هنا مصلحين فقط لا غير
ثم قال :
"وبما ذكرته في هذا الوجه يظهر أن الراجح عدم جواز تحكيم الأجنبيين منهما مع وجود من هو أهل للتحكيم من أهلهما وإن ذهب جماعة من أهل العلم إلى خلاف هذا إذ حملوا ما في الآية من كون أحد الحكمين من أهله والآخر من أهلها على الاستحباب لا الوجوب وليس ذلك بشيء لأنه يودي إلى إلغاء كثير من القيود الواردة في النصوص الشرعية وذلك مفض إلى التعويل على الآراء في مقابل النصوص وبالجملة فإن هذه الوجوه شاهدة على صحة القول بأن للحكمين التفريق كما أن لهما الجمع بحسب ما يريانه من أحوال الزوجين المقتضية لاتباع أحد المسلكين، وبهذا يحل كثير من المشكلات الناجمة عن الخلافات الزوجية لو أحسن الناس الأخذ بهذا التوجيه الرباني وكان في الأسر من أولي البصيرة والفقه من هم أهل لتحمل هذه التبعات فإن قيل ليس ما قلته مسلما فأما الآية الكريمة فإن الشافعي استدل في كتابه الأم على عدم تسويغ تفريق الحكمين للزوجين بما جاء فيها من توجيههما إلى الإصلاح مع عدم تعرضها للتفريق وذلك في قوله تعالى { إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } وأما ما روي عن الصحابة فمنه ما يحتمل أكثر من وجه ولذلك استدل الشافعي في الأم بقول علي للرجل "كذبت لا والله حتى تقر بما أقرت به " على أنه لا يسوغ التفريق إلا بإقراره من كلا الزوجين كما استدل لذلك بقول علي لمن حضروا: ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها حيث لم يقم وحده ببعث الحكمين وإنما أمر به الزوجين على أن بعض أصحاب الشافعي حكى عنه أنه قال في هذا المحكي عن علي "وفي هذا الحديث لكل واحد من القولين دليل، أما دليل القول الأول وهو أنه بعثهما من غير رضى الزوجين وقال: "عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا" وأقل ما في قوله (عليكما) أنه يجوز ذلك، وأما دليل القول الثاني أن الزوج لما لم يرض توقف علي ومعنى قوله كذبت أنك لست بمنصف في دعواك.
قلت: تندفع هذه الاعتراضات كلها بحسن التأمل ودقة النظر أما النص على الإصلاح في الآية مع السكوت عن التفريق فلا يدل على عدم تسويغ التفريق ذلك لأن المسكوت عنه لا يدل عليه حكم من حيث السكوت وقد فهمت من معنى التحكيم ما يدل أن للحكمين أن يجمعا وأن يفرقا وإنما اقتصر على ذكر الإصلاح لأجل الترغيب في الألفة والتنفير من الفرقة ما وجد إلى ذلك سبيل وأما ما قاله علي كرم الله وجهه للرجل فقصارى ما فيه أنه ما أراد به إلا زجره على تعنته حيث أبى أن يرضى بما حكم الله به وإنما أراد به أن يرده للحق الذي أباه ولو كان ذلك من أجل أن التفريق لا يسوغ إلا برضاهما معا لما كان له أن يكرهه على قبول ما لم يرض به فإن الصلح لا يكون بإكراه أحد ولو كان الحكمان وكيلين أو شاهدين لما كان معنى لقوله "أتدريان ما عليكما" وإنما كان المناسب في ذلك أن يقول لهما "أتدريان بما وكلتكما" كما نبه عليه ابن عبد البر في الاستذكار وأما قوله (ابعثوا) فهو لا يدل على أنه خطاب للزوجين وإلا لقال ابعثا من أهلكما بصيغة التثنية مع إضافة الأهل إلى ضمير الخطاب المثنى دون ضمير الغيبة وإنما قال ذلك ولم يكتف بأن يبعث بنفسه الحكمين لقصد إشراك من معه في القيام بهذا الأمر بانتخاب الحكمين الصالحين من أهليهما كما قصد بيان الحكم الشرعي في ذلك ليعرفه من لم يكن به عارفا."
وكلام الخليلى فى أوله عن حرمة اتخاذ حكمين من غير الأهل كلام صحيح لأن ما يقال من الزوجين فى حق كل منهما من قبلا ألأخر أحيانا يكون كلاما لا يصح نشره ويتطلب كتمانا
وحاول الخليلى أن يفند كون الطلاق حق الزوج فقال:
"وقد يستدل للقول الآخر بأن الطلاق إنما هو من اختصاص الزوج فلا يكون بيد الحكمين إلا إن فوضهما فيه الزوج ولكن يدفع ذلك بأن الطلاق قد يصدر من غير الزوج في أحوال معينة فقد يكون بحكم من القاضي الشرعي لرفع الضرر عن المرأة وقد يكون من الولي في حال تعذر أن يقوم به الزوج إما لغيابه أو لعدم أهليته له وذلك فيما إذا طالبت به المرأة لتضررها ببقائها في عصمة الزوج وبهذا التحرير تدرك أن قرار الحكمين يعد قضاء وبه تخرج المرأة عن عصمة الزوج إن اتفقا على التفريق بينهما ولا يتوقف قرارهما على حكم من القاضي إن كانا أهلين لما وكل إليهما وذلك بأن يكونا عدلين صالحين فقيهين فإن اختلفا في الحكم فلا عبرة بقرار أحدهما حتى يوافقه الآخر وليس لهما أن يطلقا أكثر من طلقة واحدة على الصحيح لأن الغرض يتم بها ولبدعية الزيادة عليها في الموقف الواحد غير أنها تكون بائنة بها بينونة صغرى كما لو طلقها القاضي وروي عن ابن القاسم من أصحاب مالك جواز جمعهما بين التطليقتين والثلاث إن اتفقا على ذلك وقاله المغيرة وأشهب وابن الماجشون وأصبغ من علماء المالكية وهو قول إبراهيم النخعي كما سبق ذكره.
2- لا يصار إلى تحكيم الحكمين إلا عندما يلتبس أمر الزوجين بحيث لا يعرف المسيء منهما من المحسن أما لو عرف من أساء منهما وترافعا إلى القضاء الشرعي فإن على القاضي أن يردع المسيء منهما ويرده إلى الحق رغم أنفه ولذلك فإن تطليقه للمرأة قبل التحكيم إما لتبينه إساءة الزوج أو لا فإن كان بعد تبينه ذلك فحكمه ماض لأنه بناه على أصل شرعي فلا وجه لنقضه وإن كان عكس ذلك فحكمه جائر إذ لا يسوغ له التطليق قبل أن تتضح له حقيقة أمرهما ويرد حكمه وينظر في أمرهما فإن اقتضى بعث حكمين لالتباسه بعثا وإلا فلا.
3- الأصل في تطليق الحكمين إن طلقا ألا يكون مشروطا برد الصداق إلى الرجل أو بعض منه لأن الصداق حق للمرأة على الزوج لا يجوز غمطها إياه اللهم إلا أن يكون ذلك برضاها على أن الطلاق إنما يكون بثبوت سوء معاملة الزوج لها وفي هذه الحالة لا يسوغ للزوج أن يرزأها شيئا منه كما نص عليه القرآن في قوله تعالى: { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } وقوله: { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله } لهذا ذهب أكثر العلماء إلى أنه لا يسوغ أن يحكما بالطلاق مع رد شيء مما آتاها إليه وذهب ابراهيم النخعي إلى جواز أن يحكما بالطلاق مع رد جميع الصداق أو بعضه كما سبق نقل ذلك عنه، والذي أراه أنه يسوغ الحكم بالتفريق بشيء من المال سواء كان جميع الصداق أو بعضه في حالة واحدة وهي أن يريا تعذر استمرار العلاقة الزوجية بينهما لشدة نفور المرأة عن الرجل لسبب قهري لا تملك دفعه مع إحسان الرجل إليها وعدم تسببه في نفورها لأن هذه الحالة تسوغ أن يسترد منها ما آتاها ليخلي سبيلها بخلاف ما إذا كان نفورها ناشئا عن سوء عشرته ومبالغته في القسوة عليها
4- إذا ترافع الزوجان إلى القاضي الشرعي وتبين له موجب التفريق بينهما فإن الأصل أن يأمر الزوج بالطلاق ويجبره عليه إن امتنع إلا إن أصر على الامتناع أو تعذر أن يأمره بالطلاق لغيبته أو كونه يتعذر إحضاره للحكم عليه بسبب من الأسباب فإن القاضي في هذه الأحوال يوقع الطلاق عليها بنفسه.
5- إذا حكم القاضي بالطلاق من قبله عد حكمه تطليقا للمرأة فلا يرد قضاؤه ولا تبقى للزوج عصمة النكاح على المرأة إلا إن كان قضاؤه ليس له مسوغ شرعا، ولكنني أستحسن أن يصرح القاضي بإيقاع الطلاق دفعا للبس.
6- أما حديث فاطمة بنت قيس وما فيه من الأمر بأخذ الحديقة منها فليس إلزاما لهما بالخلع وإنما أراد به رسول الله (ص)الترفق بإرشادهما إلى ما فيه مصلحتهما لما رآه من نفورها عنه ولم يكن ذلك قضاء يوجب عليهما المخالعة وهو مما يتبين بالنظر فيما جاء من ألفاظه المروية عنه (ص)."
وكل ما سبق قوله من الخليلى هو كلام مخالف لكلام الله فى التالى :
الأول كون الطلاق حق الزوج وحده كما قال تعالى :
"فلإن طلقها"
الثانى سبب وجود الحكمين هو منع الشقاق وهو الطلاق كما قال تعالى
"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما "
الثالث أن أية الحكمين ذكرت أن الحكمين يصلحان فقط ولم تذكر حالة الفراق أو الطلاق وهى :
"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا"
الكتاب عبارة عن سؤال للمفتى أحمد الخليلي عن تحكيم الحكمين فى خلاف الزوجين وقد استهل الكتاب بالسؤال وهو :
"أحمد بن حمد بن سليمان الخليلي المفتي العام ... فكثيرا ما تعاني المحاكم من دعاوي الشقاق بين الزوجين وفي كثير من الأحيان مما يظهر من مجريات الأحداث يكون من المرأة إما لبغض فيها أو مكابرة إلى غير ذلك مما يؤدي إلى عجز المحكمة عن علاج الموضوع وردهما إلى العشرة السليمة وهنا يأتي البحث هل إذا لم يظهر للمحكمة الإضرار من الزوج بل الشقاق من الزوجة وعدم تقبلها الرجوع إلى زوجها لها أن تحكم بالتفريق؟ وفي حالة الحكم بالتفريق ماذا يترتب علية بالنسبة للصداق؟ وهل الحاكم يطلق أم يجبر الزوج على الطلاق؟
وهل تحكيم الحكمين أمر واجب أم لا؟ فإن قلتم بالوجوب وطلق القاضي قبل تحكيمهما فهل ينقض حكمه أم لا؟
وهل يطلقان إن رأيا ذلك أم يطلق القاضي بناء على رأيهما؟
وهل هما حكمان أم وكيلان؟
وهل قصة ثابت بن قيس وزوجه كان الخلع فيهما حكما من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أم إرشادا فقط إذ وردت بعض الروايات بصيغة الأمر "خذ الحديقة" وفي بعضها "أترضى" وتردين عليه حديقته".
وإن كان الأمر يقتضي الوجوب وكان الشقاق منها أو تعذرت معرفته وقلتم بالتفريق فهل ترد عليه ما أخذت منه جميعه أو بعضه أم لا ترد كونه نال منها، ولكل موطؤة صداق؟
وهل نفس حكم القاضي بالتطليق يعتبر إمضاء؟ أم لا بد من مخاطبتها كأن يقول لها "أنت طالق، أو أنت مطلقة بأمر الشرع"؟
فإن قلتم بلزوم مخاطبتها بذلك فهل إذا كتب القاضي مثلا "حكمت بتطليق المدعية أو المدعي عليها من زوجها طلقة بائنة للشقاق وتلا هذا اللفظ في جلسة النطق بالحكم دون أن يخاطبها يكون كافيا ويعتبر بمثابة مخاطبتها أم لا بد من ذلك؟وإذا بحث القاضي عن مراده في كتابه هذه هل أراد إمضاء الطلاق أم الحكم به فقط ويمضي في وقت لاحق بناء على أن في التقاضي ثلاث درجات وحكمه في الأصل قابل للاستئناف والنقض وأجاب بأنه قصد إمضاء الطلاق من نفس الوقت الذي تلا فيه حكمه فهل يعتبر فعله هذا صحيحا أم لا؟
نرجو التكرم بإيضاح ذلك وتبصرينا بالرأي المختار مع تمنينا لكم من الله جل وعلا دوام التوفيق والسعادة في الدارين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته إسحاق بن أحمد"
وكان الجواب عليه كالتالى:
"الجواب:
1- بعد حمد الله تعالى وشكره وإزجاء أكمل الصلاة وأتم التسليم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه، اعلم أن العلاقة الزوجية علاقة انسجام ووئام لأنها رابطة بين قلبين وواصلة بين روحين فهي تشد روح كل واحد من الزوجين إلى الآخر، وتعطف عليه قلبه قبل أن تجتذب إليه جسمه، وهذا ما دل عليه قوله تعالى: { وجعل بينكم مودة ورحمة } بل هي امتزاج بين المشاعر واختلاط بين الأحاسيس، لذلك كان كل واحد من الزوجين بعضا من حقيقة يشملهما معناها كما أنبأ الله تعالى بذلك في قوله: { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } فإنه تجسيد لهذا المعنى البليغ الذي يصور هذه العلاقة المقدسة أتم تصوير ويؤكده تسميتهما زوجين، فإن الزوج هو ما يكون به التكامل والاتحاد بين فردين، فإن كل واحد منهما مكمل للآخر ومكمل به بما يشتارانه معا بوصالهما من طيب الحياة ونعيمها وبقدر هذه النعمة وجسامتها يتفاقم البلاء عندما يتكدر هذا الصفو وتسوء هذه العلاقة بينهما لما يكون من تنافر في طباعهما وحدة في مزاجهما، فلا تلبث حياتهما أن تتحول من وفاق إلى شقاق ومن نعيم إلى جحيم فلا يشتاران منها إلا شوكا وعلقما وبقدر عمق هذه العلاقة ومتانتها تكون مشكلاتها أعمق أثرا وأكثر تعقيدا وأصعب على من يسعى لحلها، فكثيرا ما يلتبس الأمر بسبب هذا الاختلاط في الحياة الزوجية الذي يجعل من الزوجين حقيقة واحدة حتى يتعذر أو يتعسر التمييز بين المسيء والمحسن منهما لأن ما يفضيه كل واحد منهما إلى الآخر لا يكاد يطلع عليه غيرهما، إلا أن صلة القربى التي تكتنفهما من أهليهما تمكن الأهلين أكثر من غيرهما من اكتشاف الغوامض واستظهار الخفايا، لذلك جاء التشريع الرباني العظيم متوائما مع هذا الواقع عندما أمر الله تعالى في قوله { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } بإشراك أسرتيهما في حل نزاعهما بتمثيل كل أسرة بحكم منها ليستقصي الحكمان أسباب الخلاف ويسبرا مثار الشقاق ويستكشفا عمقه وأبعاده لينظرا فيما إذا كان داؤهما ينجع فيه الدواء فيعالجانهما بما هو أشفى لعلتهما وأقطع لدابرها ليعود إليهما الصفو بعد الكدر والألفة بعد النفرة، أما إن استحكم الداء فيهما حتى استعصى على العلاج ولم يزده مبضعهما إلا استفحالا وانتشارا فإن الحل الوحيد في هذه الحالة هو الانفصال لإراحتهما من معاناة دائمة ونكد لا ينتهي إلى حد "وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته" وهو وإن كان مرا مذاقه ثقيلا وقعه فإن الضرورة تلجئ إليه كما تلجئ المريض بداء عضوي إلى بتر عضوه المصاب الذي استفحل داؤه فخيف منه على سائر الجسم لأجل المحافظة على سلامة سائر الأعضاء."
أشار الخليلى هنا إلى أسس الحياة الزوجية وإلى أن تحكيم الحكمين هو حل قبل الانفصال إن لم يؤدى للتصالح وفات عليه أن يشير إلى الحل ألأول الذى شرعه الله وهو :
قوامة الزوج والتى وضعها لحل نشوز الزوجة وهو عصيانها لحكم أو أكثر من أحكام الله بالوعظ ثم هجر المضاجع ثم الضرب نهاية المطاف
ومن ثم لا يمكن أن يسير الوضع إلا كما بين الله وهو أولا الحل الداخلى عن طريق القوامة ثم ثانيا الحل الخارجى إذا لم ينفع الحل الداخلى بين الزوجين
وحدثنا الخليلى عن اختلاف الفقهاء فى الحكمين فقال:
هذا وقد اختلف أهل العلم في هذين الحكمين وصفة وظيفتهما الشرعية أهما محكمان في أمر الزوجين أم هما شاهدان عليهما وموكلان عنهما؟ وبناء على كونهما محكمين فإن لهما بل عليهما أن يفرقا بين الزوجين إن رأيا تعذر الوفاق بينهما كما أن عليهما أن يسعيا إلى الجمع في حال رجائهما الألفة بعد النفرة والوئام بعد الخصام، وأما على القول بأن وظيفتهما لا تعدو الشهادة على الزوجين أو الوكالة عنهما فلا يسوغ لهما التفريق بينهما لأن بعثهما لا يعدو أن يكون للإصلاح بينهما وتحديد وسائل كبح جماح المشاقق منهما كقطع النفقة عن المرأة حتى تستقيم بعد اعوجاجها وتحسن معاملة بعلها، وفرض النفقة على الزوج مع عدم تمكينه من المرأة إلى أن ينقاد لمطلب الشرع في رفع الإساءة عنها وإمساكها بالمعروف كما أمره الله تعالى، ولكل واحد من القولين نصراء من أهل العلم سلفا وخلفا فالقول الأول محكي عن عدد من الصحابة فقد روي قضاء عن الخلفاء الثلاثة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وهو مذهب ابن عباس، وقال به سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي سلمة والقاضي شريح والنخعي والشعبي وإليه ذهب مالك والشافعي –في أحد قوليه– والأوزاعي وإسحاق وأحمد –في إحدى الروايتين عنه–، وبالغ ابن كثير حيث قال: "وقد أجمع العلماء على أن الحكمين لهما الجمع والتفرقة"، ودعوى الإجماع مردودة بما نقله ابن كثير نفسه -كما رواه من قبله ومن بعده- من الرأي المخالف لهذا عن بعض السلف، وسيأتي ذلك إن شاء الله، وقال ابن عبد البر: "أجمعوا أن قولهما نافذ في الجمع بينهما بغير توكيل من الزوجين، واختلفوا في الفرقة بينهما هل تحتاج إلى توكيل من الزوج أو لا؟".
ومما جاء في هذا ما أخرجه مالك في "المدونة" والشافعي في "الأم" وعبد الرزاق في مصنفه وابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما وسعيد بن منصور في سننه وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في سننه بأسانيدهم المتعددة عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال: "شهدت عليا وجاءته امرأة وزوجها مع كل واحد منهما فئام من الناس، فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما فقال علي للحكمين: "أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا" فقالت المرأة: "رضيت بكتاب الله فيما علي ولي فيه" فقال الرجل: "أما الفرقة فلا" فقال علي: "كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به".
وفي "مصنف عبد الرزاق" قال: أخبرني معمر عن ابن طاوس عن عكرمة بن خالد عن ابن عباس قال: "بعثت أنا ومعاوية حكمين" قال معمر بلغني أن عثمان بعثهما وقال: "إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما" ورواه ابن جرير الطبري في تفسيره عن عبد الرزاق بإسناده المتقدم وروى ابن جرير أيضا عن محمد ابن كعب القرظي أن عليا كرم الله وجهه قال: "الحكمان بهما يجمع الله وبهما يفرق".
وروى الشافعي في "الأم" والبيهقي في "السنن الكبرى" بإسنادهما إلى ابن أبي مليكة أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة فقالت: "اصبر لي وأنفق عليك" فكان إذا دخل عليها قالت: "أين عتبة بن ربيعة؟ أين شيبة بن ربيعة؟ فقال على يسارك في النار إذا دخلت". فشدت عليها ثيابها فجاءت عثمان بن عفان فذكرت له ذلك فأرسل ابن عباس ومعاوية فقال ابن عباس لأفرقن بينهما وقال معاوية ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف قال فأتاهما فوجدهما قد شدا عليهما أثوابهما وأصلحا أمرهما ورواه ابن جرير الطبري باختصار.
وروى البيهقي بإسناده إلى علي بن أبي طلحة أن ابن عباس قال: "إن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز" وأخرج الطبري في تفسيره والبيهقي في السنن عن الشعبي أن امرأة نشزت عن زوجها فاختصموا إلى شريح فقال شريح: "ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها" فنظر الحكمان في أمرهما ورأيا أن يفرقا بينهما فكره ذلك الرجل فقال شريح: "ففيم كانا اليوم؟" وفي رواية البيهقي: "ففيم كنا فيه اليوم؟" وأجاز أمرهما وروى الطبري في تفسيره عن إبراهيم النخعي أنه قال: "ما حكما من شيء فهو جائز، إن فرقا بينهما بثلاث تطليقات أو تطليقتين فهو جائز، وإن فرقا بتطليقة فهو جائز، وإن حكما عليه بهذا من ماله فهو جائز، فإن أصلحا فهو جائز، وإن وضعا من شيء فهو جائز".
وعن سعيد بن جبير أنه قال: "فما حكما من شيء فهو جائز"وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: "إن شاء الحكمان أن يفرقا فرقا، وإن شاءا أن يجمعا جمعا".
وأما القول الثاني فقد ذهب إليه جماعة منهم الحسن وقتادة وعطاء وابن زيد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وداود وهو المشهور عن أحمد وعليه عول الشافعي في "الأم"، وحكي عن أبي ثور واختاره الطبري في تفسيره والبيهقي في سننه وبه قال أصحابنا.
ومما جاء في هذا ما رواه الطبري في تفسيره قال: حدثنا بشار قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة عن الحسن – وهو قول قتادة – أنهما قالا: إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه، وأما الفرقة فليست في أيديهما، ولم يملكا ذلك ورواه البيهقي في سننه بمعناه عن قتادة عن الحسن"
من الكلام السابق نجد رأيين:
الأول أن قول الحكمين إصلاحا أو انفصالا واجب
الثانى أن قول الحكمين يكون للإصلاح فقط
وقد نصر الخليلى القول الأول بأن قول الحكمين واجب فى الإصلاح وواجب فى الانفصال فقال :
"والقول الأول هو أقوى حجة فيما أرى لأنه يعتضد بوجوه:
أولها: أن الله سمى المبعوثين حكمين، والتحكيم يقتضي تفويض المحكم وإسلاس القياد له والرضى بقراره ونفاذ قوله بين المتخاصمين وهو مما ألفته الأمم ومن بينها العرب قبل أن يكرمهم الله بالإسلام ويقضي على خصوماتهم بحكم القرآن إذ لم تكن لهم محاكم منصوبة لفض نزاعاتهم ولكنهم – مع ما عرف عنهم من الاحتكام في خصوماتهم إلى سيوفهم – كانوا ينزعون أحيانا منزع العقل ويفكرون في العواقب فيجعلون أمرهم إلى عقلائهم الذين عرفوا بسداد الرأي وتوقد البصيرة والتوسط بين الأطراف في دفع الخصومات ولا يجدون غضاضة في النزول إلى حكمهم والتزام ما يفرضونه عليهم ولو كان على غير هواهم وهو مما تأصل في عاداتهم وسجله التاريخ عن أقدميهم حتى كانوا يوصون بذلك أبناءهم فيما لو وقع بينهم نزاع، وقد يعينون لهم من يحتكمون إليه من بعدهم كما أوصى نزار بن معد ابن عدنان أبناءه الأربعة – وهم ربيعة ومضر وإياد وأنمار – إن اختلفوا بعده أن يحتكموا إلى ملك نجران الأفعى الجرهمي وقد فعلوا ذلك، واحتكم عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة إلى هرم بن سنان العبسي، وعندما تشاجرت بطون قريش في رفع الحجر الأسود إلى محله عندما جددوا بناء الكعبة المشرفة فكادت سيوفهم تنتضى ودماؤهم تسيل في البلد الحرام تراجعوا فاتفقوا على تحكيم أول داخل من باب بني شيبة فكان النبي - صلى الله عليه وسلم – هو الذي ساقه القدر الإلهي لرأب صدعهم وصون دمائهم وأرواحهم بقراره العادل الأمين الذي انقادوا له جميعا."
وكلام الخليلى الذى استشهد فيه بوقائع الجاهلية على حكم فى الإسلام لا يجوز سواء سمى ذلك شرع من قبلنا أو سمى وهو الحق شرع الكفار لأن الحكم يكون حكم الله كما قال تعالى :
" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"
وانتقل الخليلى إلى كون الحكم غسر الشاهد فقال:
"ومعنى هذا أن الحكم غير الشاهد، فلكل واحد منهما معناه الذي ينساق إلى الذهن تطابقا مع اسمه ووظيفته الخاصة التي يقوم بها في عمله إذ الشاهد لا يعدو أن يكون مصورا للقضية المتنازع فيها بحسب ما سمع وأبصر وناقلا إلى الحكم حقيقتها الغائبة في حال الحكم وأما الحكم فإنه يقضي بين المتخاصمين بما يراه عدلا وصوابا بعد أن يسبرها وتتكشف له حقيقتها إما باعتراف المدعى عليه أو بالبينة العادلة التي تعضد دعوى المدعي أو بما يراه بناظريه في حال الخصومة بين المتداعيين وعليه فإن من جعل الحكمين في الآية شاهدين وسلبهما وصف التحكيم المعروف عند العرب الذين نزل بلغتهم القرآن قد أبعد النجعة لأن الله خاطب العرب بلسانهم المعهود وشرفهم إذ جعل لغتهم وعاء كلامه المنزل للهداية والإعجاز فلا يسوغ حمل شيء من ألفاظ كتابه على خلاف المعنى المعهود في التخاطب بين العرب اللهم إلا أن تدل القرينة على إرادة معنى مجازي آخر وهو أسلوب معهود عند العرب أيضا ولكن أنى لهم بالقرينة الصارفة للفظ الحكمين عن حقيقته المعهودة؟.
وقد أجاد القرطبي حيث قال بعد ذكره نص ما في الآية: "وهذا نص من الله سبحانه بأنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى وللحكم اسم في الشريعة ومعنى فإذا بين الله كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ – فكيف لعالم – أن يركب معنى أحدهما على الآخر."
قطعا لا خلاف فى كون الحكمين ليسا شهودا مع أن الشهادة قد تكون حكما كما فى قضية يوسف(ص) وامرأة العزيز فالرجل الذى مع زوجها لم يشاهد شىء بينهما لأن ما جرى جرى خلف الأبواب المغلقة ومع هذا سمى الله حكمه شهادة فقال " وشهد شاهد من أهلها "
ثانيها: أن هذا القول محكي عن أربعة من الصحابة ثلاثة منهم من الخلفاء الراشدين ولم أجد أثرا عن صحابي قط يدل على خلافه ولا ريب أنه إذا تعارضت الأقوال فإن قول الصحابة أولى بالاتباع إذا لم يختلفوا لأنهم أعلم بكتاب الله وبهدي رسوله (ص)وهو معنى ما حكي عن أبي يعقوب الوارجلاني أنه قال مشيرا إلى قبر نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام "لا تقليد إلا لصاحب هذا القبر وأما الصحابة فهم أولى بالاتباع لعهدهم برسول الله (ص)وأما التابعون فهم رجال ونحن رجال"
الخطأ فى الكلام الخليلة هو أن حكم الآثار فى قول الله وقول الله هو الفيصل وأما الآثار المروية فيضرب عرض الحائط فهى ليست عن النبى(ص) وحتى لو كانت عن الخلفاء فما الذى يثبت وقوعها ؟
إنها أحاديث آحاد وهى فى الغالب لم تقع لمخالفتها كلام الله فى كون الطلاق هو حق الزوج وليس حق الحكمين كما قال تعالى :
"فإن طلقها"
ثم قال :
ثالثها: أن بعث الحكمين إنما شرع في الكتاب العزيز لاستئصال شأفة الخصام والشقاق ونزع فتيل الفتنة الهوجاء بين الزوجين أن يشب ضرامها وينفجر بركانها ومن المعلوم أن المصلحة لا تكون دائما في الجمع بينهما فقد تتأصل علتهما ويستحكم داؤهما حتى لا يكون له دواء إلا التفرق ولذلك شرع الطلاق لرفع الحرج عنهما وقد يكون بقاء العلاقة الزوجية أوغر للصدور وأنكى للجراح وأبقى للخصومة عندما يبلغ تنافرهما حدا يتعذر معه الوفاق بحيث لا يكون إلا مدعاة للاحتكاك المهيج للفتنة فماذا عسى أن يكون قرارهما في مثل هذه الحالة أيلزمان أن يجمعا بين من لا يريان جمعهما إلا مدعاة لمزيد الخصومة والشقاق واستحكام البغضاء والكراهية؟ أوليس الواجب في مثل هذه الحالة أن يبتا بما يريانه أقرب إلى العدل وأوفق مع التقوى وأرضى لله سبحانه ثم للضمير الحي ولا ريب أن الشريعة تدور مع جلب المصالح ودرء المفاسد وحيث ما كانت المصلحة فثم شرع الله كما قال ابن القيم"
والكلام هو تكرار لكلام سابق ثم قال :
"رابعها: أن النص على أن يكون أحدهما من أهله والآخر من أهلها دليل على أن الحكمة في ذلك مراعاة استقصاء أسباب الوفاق والشقاق لأن الأهلين أمكن في ذلك من غيرهم إذ بإمكان الأقربين أن يطلعوا على مكامن الداء ومناشيء الشقاق التي لا يطلع عليها الأبعدون ومن خلال ذلك يمكنهم سبر أحوال الزوجين ودراسة أسباب الشقاق بينهما والنظر في إمكان الوفاق أو تعذره والحكم كالطبيب لابد له من استقصاء العلة لاستئصالها وعلاج كل أحد بما يلائمه فإذا رأى الحكمان أن اجتماعهما مع تنافر طباعهما هو منشأ علتهما المزمنة فلا مجال للعلاج في مثل ذلك إلا بالانفصال إذ ليس من الحكمة أن يعالج الداء بغير دوائه وفرضهما بقاء العلاقة الزوجية بينهما في هذه الحالة لا يعدو أن يكون من علاج الداء بالداء وأنى بمثل ذلك يكون الشفاء؟."
والحكمان ليسوا هنا بمقام الطبيب وليسوا بمقام القاضى لسبب بسيط هو أن أول أية الحكمين يقول:
"وإن خفتم شقاق بينهما "
فسبب استدعاء الحكمين هو الخوف من الطلاق ومن ثم فالحكمين يأتيان لسبب واحد وهو الإصلاح حتى لا يقع الطلاق كما قال تعالى :
"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا"
ولذا لم يذكر الله غير الإصلاح فلو كان هناك تفريق لذكره مع الإصلاح فالحكمان هنا مصلحين فقط لا غير
ثم قال :
"وبما ذكرته في هذا الوجه يظهر أن الراجح عدم جواز تحكيم الأجنبيين منهما مع وجود من هو أهل للتحكيم من أهلهما وإن ذهب جماعة من أهل العلم إلى خلاف هذا إذ حملوا ما في الآية من كون أحد الحكمين من أهله والآخر من أهلها على الاستحباب لا الوجوب وليس ذلك بشيء لأنه يودي إلى إلغاء كثير من القيود الواردة في النصوص الشرعية وذلك مفض إلى التعويل على الآراء في مقابل النصوص وبالجملة فإن هذه الوجوه شاهدة على صحة القول بأن للحكمين التفريق كما أن لهما الجمع بحسب ما يريانه من أحوال الزوجين المقتضية لاتباع أحد المسلكين، وبهذا يحل كثير من المشكلات الناجمة عن الخلافات الزوجية لو أحسن الناس الأخذ بهذا التوجيه الرباني وكان في الأسر من أولي البصيرة والفقه من هم أهل لتحمل هذه التبعات فإن قيل ليس ما قلته مسلما فأما الآية الكريمة فإن الشافعي استدل في كتابه الأم على عدم تسويغ تفريق الحكمين للزوجين بما جاء فيها من توجيههما إلى الإصلاح مع عدم تعرضها للتفريق وذلك في قوله تعالى { إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } وأما ما روي عن الصحابة فمنه ما يحتمل أكثر من وجه ولذلك استدل الشافعي في الأم بقول علي للرجل "كذبت لا والله حتى تقر بما أقرت به " على أنه لا يسوغ التفريق إلا بإقراره من كلا الزوجين كما استدل لذلك بقول علي لمن حضروا: ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها حيث لم يقم وحده ببعث الحكمين وإنما أمر به الزوجين على أن بعض أصحاب الشافعي حكى عنه أنه قال في هذا المحكي عن علي "وفي هذا الحديث لكل واحد من القولين دليل، أما دليل القول الأول وهو أنه بعثهما من غير رضى الزوجين وقال: "عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا" وأقل ما في قوله (عليكما) أنه يجوز ذلك، وأما دليل القول الثاني أن الزوج لما لم يرض توقف علي ومعنى قوله كذبت أنك لست بمنصف في دعواك.
قلت: تندفع هذه الاعتراضات كلها بحسن التأمل ودقة النظر أما النص على الإصلاح في الآية مع السكوت عن التفريق فلا يدل على عدم تسويغ التفريق ذلك لأن المسكوت عنه لا يدل عليه حكم من حيث السكوت وقد فهمت من معنى التحكيم ما يدل أن للحكمين أن يجمعا وأن يفرقا وإنما اقتصر على ذكر الإصلاح لأجل الترغيب في الألفة والتنفير من الفرقة ما وجد إلى ذلك سبيل وأما ما قاله علي كرم الله وجهه للرجل فقصارى ما فيه أنه ما أراد به إلا زجره على تعنته حيث أبى أن يرضى بما حكم الله به وإنما أراد به أن يرده للحق الذي أباه ولو كان ذلك من أجل أن التفريق لا يسوغ إلا برضاهما معا لما كان له أن يكرهه على قبول ما لم يرض به فإن الصلح لا يكون بإكراه أحد ولو كان الحكمان وكيلين أو شاهدين لما كان معنى لقوله "أتدريان ما عليكما" وإنما كان المناسب في ذلك أن يقول لهما "أتدريان بما وكلتكما" كما نبه عليه ابن عبد البر في الاستذكار وأما قوله (ابعثوا) فهو لا يدل على أنه خطاب للزوجين وإلا لقال ابعثا من أهلكما بصيغة التثنية مع إضافة الأهل إلى ضمير الخطاب المثنى دون ضمير الغيبة وإنما قال ذلك ولم يكتف بأن يبعث بنفسه الحكمين لقصد إشراك من معه في القيام بهذا الأمر بانتخاب الحكمين الصالحين من أهليهما كما قصد بيان الحكم الشرعي في ذلك ليعرفه من لم يكن به عارفا."
وكلام الخليلى فى أوله عن حرمة اتخاذ حكمين من غير الأهل كلام صحيح لأن ما يقال من الزوجين فى حق كل منهما من قبلا ألأخر أحيانا يكون كلاما لا يصح نشره ويتطلب كتمانا
وحاول الخليلى أن يفند كون الطلاق حق الزوج فقال:
"وقد يستدل للقول الآخر بأن الطلاق إنما هو من اختصاص الزوج فلا يكون بيد الحكمين إلا إن فوضهما فيه الزوج ولكن يدفع ذلك بأن الطلاق قد يصدر من غير الزوج في أحوال معينة فقد يكون بحكم من القاضي الشرعي لرفع الضرر عن المرأة وقد يكون من الولي في حال تعذر أن يقوم به الزوج إما لغيابه أو لعدم أهليته له وذلك فيما إذا طالبت به المرأة لتضررها ببقائها في عصمة الزوج وبهذا التحرير تدرك أن قرار الحكمين يعد قضاء وبه تخرج المرأة عن عصمة الزوج إن اتفقا على التفريق بينهما ولا يتوقف قرارهما على حكم من القاضي إن كانا أهلين لما وكل إليهما وذلك بأن يكونا عدلين صالحين فقيهين فإن اختلفا في الحكم فلا عبرة بقرار أحدهما حتى يوافقه الآخر وليس لهما أن يطلقا أكثر من طلقة واحدة على الصحيح لأن الغرض يتم بها ولبدعية الزيادة عليها في الموقف الواحد غير أنها تكون بائنة بها بينونة صغرى كما لو طلقها القاضي وروي عن ابن القاسم من أصحاب مالك جواز جمعهما بين التطليقتين والثلاث إن اتفقا على ذلك وقاله المغيرة وأشهب وابن الماجشون وأصبغ من علماء المالكية وهو قول إبراهيم النخعي كما سبق ذكره.
2- لا يصار إلى تحكيم الحكمين إلا عندما يلتبس أمر الزوجين بحيث لا يعرف المسيء منهما من المحسن أما لو عرف من أساء منهما وترافعا إلى القضاء الشرعي فإن على القاضي أن يردع المسيء منهما ويرده إلى الحق رغم أنفه ولذلك فإن تطليقه للمرأة قبل التحكيم إما لتبينه إساءة الزوج أو لا فإن كان بعد تبينه ذلك فحكمه ماض لأنه بناه على أصل شرعي فلا وجه لنقضه وإن كان عكس ذلك فحكمه جائر إذ لا يسوغ له التطليق قبل أن تتضح له حقيقة أمرهما ويرد حكمه وينظر في أمرهما فإن اقتضى بعث حكمين لالتباسه بعثا وإلا فلا.
3- الأصل في تطليق الحكمين إن طلقا ألا يكون مشروطا برد الصداق إلى الرجل أو بعض منه لأن الصداق حق للمرأة على الزوج لا يجوز غمطها إياه اللهم إلا أن يكون ذلك برضاها على أن الطلاق إنما يكون بثبوت سوء معاملة الزوج لها وفي هذه الحالة لا يسوغ للزوج أن يرزأها شيئا منه كما نص عليه القرآن في قوله تعالى: { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } وقوله: { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله } لهذا ذهب أكثر العلماء إلى أنه لا يسوغ أن يحكما بالطلاق مع رد شيء مما آتاها إليه وذهب ابراهيم النخعي إلى جواز أن يحكما بالطلاق مع رد جميع الصداق أو بعضه كما سبق نقل ذلك عنه، والذي أراه أنه يسوغ الحكم بالتفريق بشيء من المال سواء كان جميع الصداق أو بعضه في حالة واحدة وهي أن يريا تعذر استمرار العلاقة الزوجية بينهما لشدة نفور المرأة عن الرجل لسبب قهري لا تملك دفعه مع إحسان الرجل إليها وعدم تسببه في نفورها لأن هذه الحالة تسوغ أن يسترد منها ما آتاها ليخلي سبيلها بخلاف ما إذا كان نفورها ناشئا عن سوء عشرته ومبالغته في القسوة عليها
4- إذا ترافع الزوجان إلى القاضي الشرعي وتبين له موجب التفريق بينهما فإن الأصل أن يأمر الزوج بالطلاق ويجبره عليه إن امتنع إلا إن أصر على الامتناع أو تعذر أن يأمره بالطلاق لغيبته أو كونه يتعذر إحضاره للحكم عليه بسبب من الأسباب فإن القاضي في هذه الأحوال يوقع الطلاق عليها بنفسه.
5- إذا حكم القاضي بالطلاق من قبله عد حكمه تطليقا للمرأة فلا يرد قضاؤه ولا تبقى للزوج عصمة النكاح على المرأة إلا إن كان قضاؤه ليس له مسوغ شرعا، ولكنني أستحسن أن يصرح القاضي بإيقاع الطلاق دفعا للبس.
6- أما حديث فاطمة بنت قيس وما فيه من الأمر بأخذ الحديقة منها فليس إلزاما لهما بالخلع وإنما أراد به رسول الله (ص)الترفق بإرشادهما إلى ما فيه مصلحتهما لما رآه من نفورها عنه ولم يكن ذلك قضاء يوجب عليهما المخالعة وهو مما يتبين بالنظر فيما جاء من ألفاظه المروية عنه (ص)."
وكل ما سبق قوله من الخليلى هو كلام مخالف لكلام الله فى التالى :
الأول كون الطلاق حق الزوج وحده كما قال تعالى :
"فلإن طلقها"
الثانى سبب وجود الحكمين هو منع الشقاق وهو الطلاق كما قال تعالى
"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما "
الثالث أن أية الحكمين ذكرت أن الحكمين يصلحان فقط ولم تذكر حالة الفراق أو الطلاق وهى :
"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا"