نقد كتاب أزمة عام الرمادة الاقتصادية من خلافة عمر بن الخطاب
الكتاب من تأليف عبد الله طه عبد الله ناصر السلماني من أهل العصر وموضوعه هو أزمة الرمادة كما قال فى البداية :
"وقد تعرضت العديد من الدول إلى المشكلات والازمات الاقتصادية عبر التاريخ، وفي تاريخنا العربي الاسلامي انموذج على حل هذه الأزمات، وهو عام الرمادة سنة 18 هـ خلافة عمر بن الخطاب ، اذ أصاب المدينة المنورة وما جاورها من المدن والبلاد، أزمة اقتصادية من قحط وجوع، وقلة امطار، أهلكت الناس وقد وقفنا في البحث على أبعاد هذه الأزمة وآثارها وما اتخذ من إجراء في مواجهتها حتى صرفها الله عن الأمة وانقذها من وطأتها "
البحث تاريخى ولكنه يتناول جوانب من الشرع ومن ثم لا يهمنا إن كان الحادثة وقعت أم لا ولكن المهم هو بيان حكم الله فيما قيل فى الأزمة فى كتب التاريخ
استهل السلمانى كلامه بتعرض كل شعب لأزمات اقتصادية لها مظاهرها السيئة فى مجالات الحياة المختلفة فقال :
"أزمة عام الرمادة الاقتصادية سنة 18 هـ/ 639 م من خلافة عمر بن الخطاب:
في التاريخ البشري المختلف تتعرض الأوضاع الاقتصادية شعب من شعوب الأرض، إلى كثير من الازمات، بالأخص تلك المفاجئة والطارئة، التي يكون لها تأثير خطير، وبالأخص في العصور التاريخية المبكرة، فلم يذكر التاريخ حالة انكماش واختلال في أمور الحياة، إلا ورافقها تدهور في الأوضاع الاقتصادية، وقد حفلت كتب التاريخ العربي الإسلامي بأدلة وأحداث كثيرة، شهدت غلاء الأسعار، والقحط، وتدهور في الحياة الاقتصادية، ورافقها انتشار الأمراض والأوبئة، وفقدان الأمن والنظام
وهنا تبرز أهمية حياة الشخصية التاريخية، التي تعلم الناس دروسا في الحكمة، وتدبير الأمور والأحداث، وقد تعرضت الدول إلى العديد من الأزمات الاقتصادية، التي تستلزم من القيادات ان تعمل على عبورها، وتكريس الجهد للتغلب عليها، فليس من العيب ان تنبت وتحدث المشكلات على طريق العمل، وتثور الأزمات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، فاقتحام المشكل وعبور الأزمات، هو دليل حياة وبشير أمل من أجل تجاوز الأزمة الاقتصادية "
ليس بالضرورة أن تترافق مع الأزمات الاقتصادية انتشار الأمراض واختلال الأمن ففى الأزمة الأولى للمسلمين بعد الهجرة للمدينة كانت المظاهر خالية من ذلك كما قال تعالى:
"ولنبلونكم بشىء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين"
فهنا المظاهر الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وفى الأزمة المصرية فى قصة يوسف(ص) لم يحدث لا هذا ولا ذاك من اختلال الأمن وانتشار الأمراض وكذلك لم تحدث مجاعة
بالقطع الأزمة المصرية تم علاجها قبل حدوثها حيث تم تخزين الطعام بطريقة سليمة وتوزيعه بطريقة عادلة عند حدوث الأزمة ومن ثم لم يشعر الناس بأى مظهر من مظهر الأزمة
وأما الأزمة بعد الهجرة فتم علاجها هى الأخرى بطرق مختلفة منها الصوم ومنها الاشتراك فى الطعام بمعنى أن كل من لديه طعام اقتسمه مع المسلمين الأخرين وقد صبر الكل على تناول وجبة فى اليوم أو أقل
تناول الرجل أزمة الرمادة فتكلم أولا عن سبب التسمية فقال:
"وعام الرمادة سنة 18 هـ/ 639 م من خلافة عمر بن الخطاب أنموذج شاهد على هذه الأزمات، إذ أصاب المدينة المنورة وما حولها، قحط وجوع ونقص شديد في الغذاء بعد أن أمسكت عن ذلك أزمة اقتصادية حادة حلت بالمجتمع العربي الإسلامي في المدينة المنورة وبقية أطراف شبه جزيرة العرب ، والتي سنتكلم عن هذه الأزمة بالشكل الآتي:-
أولا: سبب تسمية العام الرمادة
وقد تعددت الآراء في تعليل التسمية، التي أطلقها المؤرخون على عام الرمادة، واقتران تسمية ذلك العام بها فقال ابن منظور (ت 711 هـ) عام الرمادة، معروف سمي بذلك الاسم، لان الناس والأموال هلكت فيه، وقيل هي الجدب: تنابع النظر فتبصر الأرض والشجر، مثل لون الرمادة وسميت عام الرمادة لان الأرض اسودت بسبب قلة الأمطار، حتى أصبح لونها شبيها بالرماد، وقيل أنها كانت تسفي الريح ترابا كالرمادة إذن نلخص هذا القول: ان الرمد: تعني الشيء جعله من الرماد أي أمحلوا: لم يبق لهم شئ، وصار لون الأرض مثل لون الرماد
وهذا دليل على ان الأرض في المدينة المنورة وما حولها، وبالاحرى شبه جزيرة العرب قد امحلت بسبب قلة الأمطار، وهذا الجدب فقلة الغذاء والرزق قد أثر في الناس والزروع والمواشي وقد وصف ابن سعد (230 هـ) الحالة بقوله: وقد أجدبت الناس سنة 18 هـ بأرض الحجاز، وتوجه الناس إلى المدينة المنورة، مركز الخلافة الإسلامية، ولم يبق أحدا منهم في البادية، وكانت مدة الأزمة هي تسعة أشهر فقد قام الخليفة عمر بن الخطاب وهو خليفة المسلمين بإنفاق الأموال من بيت مال المسلمين وتقديما إلى الناس الذي هم بأمس الحاجة إلى الغذاء والملابس بسبب عام المجاعة "
ليس بالضرورة أن ترجع التسمية للون تراب الأرض الجاف بسبب قلة الأمطار فقد ترجع إلى الرمد وهو التعب الذى أصاب الناس من الجوع مثل رمد وهو تعب العيون زد على هذا أن الأرض فى شبه الجزيرة أساسا أرض رملية وأرضها الزراعية لكونها صحراء ستكون رملية صفراء ولن تكون طينية إلا نادرا
ويبين السلمانى ان المؤرخين اختلاف فى أى سنة وقعت الأزمة فقال :
"ثانيا: تاريخ الأزمة الاقتصادية:
اختلف المؤرخون في تحديد عام الرمادة الى رأيين فذهب الأول فرأى أن عام الرمادة كان سنة ثماني عشرة من الهجرة النبوية الشريفة، والى ذلك ذهب ابن اسحاق(ت 151 هـ)، وابو معشر السندي (ت 170 هـ) ومحمد بن سعد (ت 230 هـ) ، وخليفة بن خياط (ت 240 هـ) ، واليعقوبي (ت 291 هـ) ، ومحمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) ، وابن حبان البستي (10)، وابن الأثير الجزري (ت 630 هـ) (11)، والذهبي(ت 748 هـ) ، وابن كثير (ت 774 هـ) أشار إلى سنة 18 هـ، من المؤرخين المحدثين، عمر فروخ ، ومحمد علي الصلابي
أما الرأي الثاني: فذهب إلى ان عام الرمادة كان سنة 17 هـ، واليه ذهب السيوطي (ت 911 هـ) ، وتابعه محمد سعيد رمضان البوطي ، ومن دراستنا لتاريخ عام الرمادة نستطيع ان نجزم بان عام الرمادة كان عام 18 هـ، وليس عام 17 هـ، بدليل إجماع معظم المؤرخين والمحدثين القدامى على ذلك وما ذكره السيوطي (ت 911 هـ)، وهو مؤرخ متأخر اعتمد فيه السيوطي على مؤرخ انفرد بقوله هو سيف بن عمر الذي عاش في زمن الخليفة هارون الرشيد، إذ ذهب الى ان عام الرمادة كان سنة 17 هـ واوائل سنة 18 هـ "
هذا الاختلاف والتناقض كما الحال فى معظم الروايات يؤدى بنا إلى القول أن الأزمة أساسا لم تحدث لأن الكتب المعتمد عليها كأساس للروايات فابن إسحاق والسندى كتبهما ضعيفة فى الإسناد وهما فى كتب الجرح والتعديل غير موثقين
ونلاحظ الخبل فيما نقله السلمانى وهو أن سبب حدوث الرمادة هى شرب أفراد يعدون على أصابع اليدين الخمر ورغم توبتهم وعقابهم أكد الخليفة أن بسبب هذا الشرب يصيب المسلمين شرفى المستقبل وقد تحقق فى الرمادة وفى هذا قال السلمانى:
"ثالثا: سبب الأزمة الاقتصادية:
من دراستنا للمصادر التي كتبت عن الأزمة الاقتصادية في سنة 18 هـ، تبين ان أبرز اسبابها يتمثل في قلة الأمطار والقحط ويعلل الخليفة عمر بن الخطاب ذلك بقوله: هي إرادة الله سبحانه وتعالى شاءت ان تحبس المطر والجفاف الذي أصاب الارض والناس، ويعزو السبب إلى تركهم التمسك بما أمرهم الله، فيرى ان أبا عبيدة بن الجراح كتب إلى عمر بن الخطاب يقول له: "ان نفرا من المسلمين أصابهم الشراب منهم ضرار ، وابو جندل فسألتهم فتأولوا، وقالوا: خيرنا فاخترنا قال: هل انهم منتهون يعني فانتهوا فجمع الناس فاجتمعوا، على ان يضربوا ثمانين جلدة، فان أبى قتل، فكتب عمر إلى أبي عبيدة، ان دعهم، فان زعموا أنها حلال فاقتلهم، فان زعموا أنها حرام، فاجلدهم ثمانين جلدة، فبعث إليهم فسألهم على رؤوس الناس، فقالوا: حرام، فجلدهم ثمانين جلدة، وحد القوم، وندموا على لحاجتهم، وقال: يحدثن فيكم أهل الشام، حادث، فحدثت، "الرمادة"
ونلاحظ الخبل هنا هو أن الرواية تقول أن الحادث يقع فى الشام وهو قول الرواية يحدثن فيكم أهل الشام، حادث، فحدثت، "الرمادة" ومع هذا فالبحث يقول ان الرمادة كانت فى الحجاز وهو قول السلمانى " وقد أجدبت الناس سنة 18 هـ بأرض الحجاز"
ويحدثنا السلمانة عما اتخذه الخليفة لحل الأزمة فقال :
"رابعا: إجراءات عمر بن الخطاب لمواجهة الأزمة الاقتصادية:
يستمد جزء من قوة الاقتصاد من قوة النظام السياسي، ويشمل التنظيم عادة، وسيلة لضمان بلوغ العمل وأهدافه، وكذلك الأمر يتطلب تحفيز كل الأطراف للتفكير بالصيغ الأكثر صلاحية في تنظيم العمل، وللوفاء بمتطلباته وتحقيق أهدافه وما يتناسب مع الظروف مرصدا وإستراتيجيا
وتميز عمر بن الخطاب ببراعته وحنكته السياسية والإدارية والاجتماعية، وإحاطته واشرافه على شؤون الرعية بنفسه إذ كان يرى ويشاهد يتجول في الاسواق ويعس بالليل، ويضع نفسه في الظروف التي تكفل له ان يعيش الأوضاع الاقتصادية نفسها التي تعيش فيها الرعية، فأحس بمشكلات الناس، ووضع الحلول المناسبة لها، وقال ابن منظور (ت 711 هـ) "انه كان يعس في المدينة، أي يطوف بالليل، ويحرس الناس، ويكشف أهل الريبة"
وقد وصف عمر سياسته تجاه هذه الأزمة الخانقة في قوله: لئن أصاب الناس سنة لأنفقن عليهم من مال الله ما وجدت درهما، فان لم أجد ألزمت كل رجل رجلا ، وأضاف عمر بن الخطاب أيضا: لو لم أجد للناس من ما يسعهم، إلا ان أدخل على كل أهل بيت عدتهم فيتقاسموا أنصاف بطونهم، حتى يأتي الله بخبر ما فعلت، فأنهم لن يهلكوا على أنصاف بطونهم"
وما قاله السلمانى نقلا عن بطون الكتب من العس والحراسة وكشف أهل الريبة لا علاقة له بالمجاعة وما له علاقة هو ما قاله من اقتسام الناس الطعام حتى لو جاعوا جميعا وإن كان هذا الحل يدل على أن الخليفة ومن حوله كانوا يعيشون فى دولة تقتصر على الحجاز فقط وهو ما يناقض إنها دولة كانت مترامية الأطراف فيها ولايات كثيرة عندها محاصيل وافرة
بالقطع الحادثة لم تحدث أساسا وما يروى هنا هو اتهام للخليفة بالغباء وقلة العقل فالخليفة كان سيأمر الولاة على الأمصار أن يرسل كل منهم المحاصيل ليوزعها على الناس فى المنطقة المنكوبة وهذا يعرفه كل من له أدنى معرفة بقوله تعالى "وتعاونوا على البر والتقوى"
كما يتناقض مع ما روته تلك الكتب من رسائل متبادلة بين عمر وعمرو بن العاص مثلا الذى قال له إنه سيرسل له قوافل أولها عند الخليفة وأخرها عند عمرو فى مصر حيث ذكر كتاب البداية والنهاية لابن كثير "فكتب أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب إلى عمرو ابن العاص في مصر " واغوثاه واغوثاه واغوثاه " فقال عمرو بن العاص والله لأرسلن له قافله من الأرزاق أولها في المدينة واخرها عندي في مصر"
بعد أن استنفذ بيت المال ولم تنته الأزمة كاتب عمر الأمصار طالباً العون فجاءه المدد من أبي عبيدة عامر بن الجراح ومن أبي موسى الأشعري فأرسل إليه عمرو بن العاص بألف بعير تحمل الدقيق، وبعث في البحر بعشرين سفينة تحمل الدهن، وبعث إليه بخمسةِ آلاف كِساء، وأرسل إلى سعد بن أبي وقاص فأرسل له بثلاثةِ آلاف بعير تحمل الدقيق، وبعث إليه بثلاثةِ ألاف عباءة، وأرسل إلى والي الشام فبعث إليه بألفي بعير تحمل الزاد، ونحوُ ذلك مما حصل من مواساة المسلمين لبعضهم واستمر هذا الحال في الناس تسعة أشهر ثم تحول إلى الخصب والدعة وانتشر الناس عن المدينة إلى أماكنهم "
ويبين السلمانى أفعال عمر لحل الأزمة فقال:
"ويمكن للباحث ان يلحظ الخطوات التي سار عليها الخليفة عمر بن الخطاب في مواجهة الأزمة الاقتصادية، وكانت كالآتي:-
أ- ضرب القدوة للناس من نفسه:
أوردت الروايات التي وردتنا مواقف لعمر بن الخطاب كان فيها القدوة للناس في الصبر على الازمة ومنها مثلا: أقسم عمر بن الخطاب على نفسه، ان لا يذوق سمنا، ولا لبنا، ولا لحما، حتى يحيا الناس جميعا أي ان يأكل المسلمون جميعا، السمن، اللبن، واللحم ، فدخل يوما القهرمان ، له السوق فاشترى وطبا من لبن، وعكة من سمن، فقال له عمر، بكم ابتعتها، قال: أربعين درهما، فقال: يا أمير المؤمنين: أبر الله يمينك وعظم أجرك، فقام عمر وبره أي وبخه، وقال: ومن أين أحيي الناس، ولم يأكل من الطعام الذي طلبه له وفي رواية ثانية يضرب لنا الخليفة عمر بن الخطاب ، مثلا رائعا في البر والتضحية من اجل المسلمين، فيروي عن عبد الله بن عمر ما: انه قال: ان عمر دخل عليه وهو على صدر فراشه، فرحب بأمير المؤمنين، ووضع عمر يده في الطعام، فلقم لقمة وقال: بسم الله، ثم ثنى فقال لاني لاجد طعم دسم، ما هو بدسم لحم، قال: يا امير المؤمنين طلبت السمين من اللحم فوجدته غاليا، وكنت أحبه أن يتوازى أهل بيتي عظما عظما، فاشتريت بدرهم من يهودي، وحملت عليه درهما سمنا، فقال عمر ، ما اجتمعنا عند رسول الله (ص) إلا وتصدق باحدهما، وأكل الآخر، فقال له عبد الله: يا أمير المؤمنين، فوالله لاجتمعان عندي، إلا وتصدقت باحدهما، وأكلت بالآخر، فقال: ما أنا بالذي أعود عليه وفي رواية: أن عمر بن الخطاب : نهى ان يجمع السمن واللحم بينهما، فدخل عبيد الله بن عمر على أخيه عبد الله بن عمر، فقرب منه خبزا ولحما، فقال عبيد الله ما أنا بطاعم طعامكما، حتى تفرغ عليه سمنا، فقال عبد الله: ألم تسمع أمير المؤمنين! قال: ما أنا فاعل، فقالت: صفية بنت أبي عبيد، لا تحرم على أخيك الطعام، قال: فجاء بسمن فافرغ، فانه لموضوع ما مسه، إذا بصوت عمر بن الخطاب على الباب، فقال مالكم ولطعامكم، فأهوى بيده فوجد طعم السمن، فصال على الخادمة ضربا، فقالت الخادمة: لا ذنب لي: إنما انا خادم أفعل ما أمرت به، فتركها فقال علي: ببنت ابي عبيد؟ فضربها حتى سقط حماها ثم جالت تسعى وتركض حتى دخلت البيت واغلقت الباب دونه
ومن هاتين الروايتين تبين حرص الخليفة عمر بن الخطاب ، على ترك الإسراف في الأكل، وصنع نوع واحد من الطعام مثل اللحم من غير أن يضاف اليه السمن وكان الخليفة عمر بن الخطاب ، حرم على نفسه أكل اللحم عام الرمادة، حتى يأكل الناس جميعا، وكان لابنه عبيد الله بن عمر، بهمة، وهي نوع من انواع الطيور الداجنة، فجعلت في التنور، فخرج عمر بن الخطاب ، لما شم رائحتها، فقال: أظن احدا من أهلي قد اجترا علي، وكان هو مع نفر من أصحابه رضوان الله عليهم، فقال عمر: لغلامه أذهب فانظر، فدخل فوجدها في التنور، فقال له عبيد الله استرني سترك الله، فقال له: قد عرف وأرسلني اليك، لن أكذبه، فاستخرجها، ثم جاء بها فوضعها بين يديه، فاعتذر الى أصحابه ان يكون قد علمه، فقال: عبيد الله: أنها كانت حقا لابني، وكنت قد اشتريتها له من شدة شهوة أكل اللحم ، ان تقشف عمر بن الخطاب ، لم يكن مجرد عبادة، وإنما كان منهجا للرعية، من ناحية ووسيلة الإحساس بمشكلاتها من ناحية أخرى ، ومبدأه في ذلك قوله تعالى "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا وأستمتعتم بها"
وقد تأثر الخليفة عمر بن الخطاب في عام الرمادة، حتى تغير لونه، فروى الصحابي الجليل عياض بن خليفة ، قال: رأيت عمر عام الرمادة، وهو اسود اللون، ولقد كان ابيض، فتقول مم ذا؟ فيقول كان رجلا إعرابيا، وكان يأكل السمن، واللبن، فلما أمحل الناس اصابتهم المجاعة، حرمها حتى يحيوا، فأكل الزيت، فتغير لونه وجاع وأكثر وكان أكل عمر عام الرمادة خبز وقد ثرد بالزيت حتى اذا كان يوم نحر فيه جزورا وهي صغير الإبل فطعم الناس وغرفوا من طيبها فأتى به، فإذا قطعة من سنام وكبد، فقال: اني هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، الجزور التي نحرنا اليوم، فقال: بخ بخ، بئس الوالي ان أكل طيبها، وأطعمت الناس كراديسها، ارفع هذه الجفنة، هات لنا غير هذا الطعام، قال: فأوتي بخبز وزيت، قال: فجعل يكسر بيده ويثرد ذلك الخبز، ثم قال: ويحك ما يرفأ أهل هذه الجفنة حتى تأتي بها أهل بيت يثمغ فاني لم أذهب إليهم منذ ثلاثة أيام، واحسبهم مفقرين، ضعها بين ايديهم
هذا هو الفاروق عمر بن الخطاب ، وهذا هو من الحكم في الاسلام، يؤقر الرعية على نفسه، فيأكلون مما يأكل، وهو الذي يحمل من اعباء الحكم والحياة، أضعاف ما يحملونه، ويعاني من ذلك أضعاف ما يعانون، وهو في ذلك لا يضع القيود على نفسه وحدها، بل يسير بها لتقيد أفراد عائلته "أسرته"، فهم في نظر الخليفة عمر بن الخطاب ايضا يجب ان يعانوا أكثر مما يعاني الناس وذات يوم نظر عمر بن الخطاب الى بطيخة في يد بعض ولده، فقال: بخ بخ، يا أمير المؤمنين تأكل الفاكهة، وأمه محمد هزلى، فخرج الصبي هاربا، وبكى، فسكت عمر بعد ما سأل عن ذلك، وقالوا له: اشتراها بكف من نوى
ولقد كان إحساسه بسمؤولية الحكم أمام الله عزوجل، يملك عليه شعاب نفسه، فلم يترك وسيلة من الدين والدنيا كي يواجه بها الجدب والجوع وانقطاع الأمطار الا لجأ إليها، فكان دائم الصلاة، دائم الاستغفار، دائم الحرص على توفير الاقوات والمواد الغذائية للمسلمين، وكان يفكر كثيرا في أمور رعيته، وبخاصة من زحف منهم إلى المدينة المنورة، سبب الجوع، ومن بقى منهم في البادية، يواجه العبء كله بكفاية واقتدار، ثم بعد ذلك قسوة على النفس ما أروعها من قسوة حتى قال من كان له علم ومعرفة في تلك الازمة الاقتصادية: لو لم يدفع الله المحل وانقطاع الأمطار، ويبس الأرض، عام الرمادة، لظننا ان عمر يموت حمسا بأمر المسلمين وهذا دليل وتأكيد على حرص امير المؤمنين على أرواح المسلمين، فمثلا روي عن الامام الزهري (ت 124 هـ) : ان عمر بن الخطاب انه كان يصلي من جوف الليل في مسجد رسول الله (ص) زمان الرمادة، نقصد به عام الرمادة، وكان يقول: اللهم لا تهلكنا بالسنين وارفع عنا البلاء "
ما يروى هنا عن تحريم عمر اللحم والفاكهة والسمن وغير ذلك على نفسه كلام مخالف للشرع فلا يجوز لأحد مهما كان أن يحرم ما اخل الله ولقد لام الله نبيه (ص) على ذلك فقال :
" يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك"
ومن ثم لا يمكن لعمر أن يكرر هذه الفعلة وإنما يمنع نفسه من تناول تلك الأشياء بلا تحريم وهذه اغلروايات دليل على ان حادثة الرمادة لم تحدث أنها تنسب عمر إلى الجهل بدين الله هنا وفيما سيأتى بعد
وقد تناول السلمانى
ب- الاستغاثة بالله:
روي أن عمر بن الخطاب قال: عام الرمادة سنة 18 هـ، يا أيها الناس، أدعوا الله ان يذهب عنكم المحل، وهو يطوف أي يتجول في المدينة المنورة وعلى رقبته درة وكان الخليفة عمر بن الخطاب إذا صلى المغرب، نادى: يا أيها الناس استغفروا ربكم ثم توبوا اليه، وسلوه من فضله، واستسقوا سقيا رحمة لاسقيا عذاب، فلم يزل كذلك حتى فرج الله ذلك وخطب عمر بن الخطاب ، في عام الرمادة أيضا: فقال: يا أيها الناس، أتقوا الله في أنفسكم، وفيما غاب عن الناس من أمركم، فقد ابتليت بكم وما ادري ابتليتم بي، فما أدري السخطة علي دونكم او عليكم دوني، او قد عمتني وعمتكم، فمهلوا، فلندع الله يصلح قلوبنا، وان يرحمنا، وان يرفع عنا المحل، قال: فرئي عمر يومئذ رافعا يديه يدعوا الله، ودعا الناس، وبكى وبكى الناس مليا، ثم نزل من المنبر
روى الإمام الشعبي (ت 104 هـ) : ان عمر : قام على منبر رسول الله (ص)، فقرأ هذه الآيات: " استغفروا ربكم إنه كان غفارا " ، وقوله تعالى " استغفروا
ربكم ثم توبوا إليه " ، ثم نزل من المنبر فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما منعك ان تستيقي؟ قال: طلبت المطر ، بمحاديج السماء التي ينزل بها المطر
وقال زيد بن أسلم عن أبيه : قال سمعت عمر بن الخطاب يقول: أيها الناس أني أخشى ان تكون سخطة عمتنا فاكتبوا ربكم وأفزعوا اليه وأحدثوا خيرا "
الاستغاثة بالله مطلوبة وواجبه وأما صلاة الاستسقاء وهو دعاء فواجب ولكن ما يثبت أن الرمادة لم تحدث أن يكون عمر والعباس وكبار المسلمين جهلة بدين الله فيتخذوا العباس واسطة تقرب إلى الله فيتوسلوا إلى الله به ولا نجد من ينكر ذلك وفى هذا نقل السلمانى:
"ج- صلاة الاستسقاء في خلافة عمر بن الخطاب :
لما اجمع عمر بن الخطاب ، على أن يستسقى ويخرج للناس، كتب إلى عماله، ولاة الأقاليم، ان يخرجوا يوم كذا، وساعة كذا، وان يتضرعوا إلى الله ويطلبون أن يرفع المحل عنهم وقلة الأمطار عنهم، قال: وخرج ذلك وعليه برد رسول الله (ص)، حتى انتهى الى المصلى، فخطب الناس وتضرع الى الله، وجعل الناس يلحون، في طلباتهم الى الله، فما أكثر دعاءه الى الاستغفار، حتى قرب ان ينصرف، رفع يديه مرا، وحول رداءه فجعله الى اليمين، الى اليسار، ثم من اليسار إلى اليمين، ثم مر يديه، وجعل يلح في الدعاء، وبكى عمر بكاء طويلا حتى أخضلت لحيته
وخرج معه العباس بن عبد المطلب ، فخطب وأوجز وصلى ثم ثنى على ركبتيه، وقال: اللهم عجزت عنا انصارنا، وعجزنا حولنا، وقوتنا، وعجزت عنا أنفسنا، ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم فاستقنا واحيي البلاد والعباد، ثم أخذ بيد العباس بن عبد المطلب، عم رسول الله (ص)، وان دموع العباس لتنحدر على لحيته، فقال: اللهم نتقرب بعم نبيك (ص)، هو وبقية أباءه، فانك تقول وقولك الحق: "وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحا" فحفظتهما بصلاح أبائهما، فاحفظ اللهم نبيك (ص) في عمه، فقد لذنا به اليك، مستشفعين مستغفرين، ثم أقبل على الناس، فقال: استغفروا ربكم انه كان غفارا وكان العباس قد طال وعمر، وعيناه تذرفان الدمع، ولحيته تجول على صدره، وهو يقول: اللهم انت الراعي فلا تهمل الضالة، ولا تدع الكبر بدار مضيعة، فقد فزع الصغير، ورفق الكبير، وارتفعت الشكوى، وانت أعلم السر وأخفى، اللهم فاغثم بغياثك، قبل ان يقطنوا فيهلكون فانه لا ييأس من روحك الا القوم الكافرون
فنشأت طيرة من سحاب، فقال الناس: ترون، ثم التأمت ومشت فيها ريح، ثم هدأت، فأمطرت فوالله ما نزحوا، حتى اعتنقوا الجدار، وقلصوا المأزر، فطفق الناس بالعباس عم الرسول (ص) هنيئا لك يا ساقي الحرمين، فقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
بعمي سقي الحجاز وأهله عشية يستسقي بشيبته عمر
توجه بالعباس في الجدب راغبا إليه فما قام حتى أتى ا لمطر
ومنا رسول الله فينا تراثه فهل فوق هذا للمفاخر مفتخر
وجاء في رواية أخرى، صفة ما دعا به العباس بن عبد المطلب في هذه الواقعة وهو قوله: اللهم انه لم ينزل بلاء الا بذنب ولم يكشف الا بتوبة، وقد توجه القوم بي اليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث، فأرخت السماء، مثل الجبال، حتى أخضب وعاش الناس
ويروي ان الخليفة عمر بن الخطاب ، قال في دعاء الاستسقاء، "اللهم انا نتقرب إليك بعم نبيك، فلا تخيب ظنهم في رسولك" وهذا قول صريح ومنهج واضح في حياة الأمة ودليل عملي اقتصادي في معالجة الأزمات، بالاشتراك مع الناس جميعا، فيما بينهم من مسؤولية الدولة وتدخلها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية
وفي رواية عمر بن شبة: ان عمر خرج يستسقي فتبعناه فلم يزل رافعا صوته ويديه: يقول: اللهم اغفر لنا انك كنت غفارا، حتى أتى الى المصلى يستسقي ويدعوا الناس معه، قال فلبثنا أياما، فانشأ الله سبحانه وتعالى سحابة بين الشام واليمن، ثم ساقها الله، حتى أمطرت البلاد بإذن الله وسالت السيول وسال بطحان ، والأودية التي معه، فخرج عمر الى بطحان، ينظر الى رحمة الله، ومواقع السيل، ويحمد الله ويثني عليه، ويكبر "
قطعا حكاية عمر والعباس والتوسل بالعباس هى اتهام للمسلمين جميعا بالجهل بدين الله وأنهم عادوا لأيام الجاهلية حيث كان القوم يتقربون بكبارهم زلفى إلى الله كما قال تعالى" والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى"
وحدثنا السلمانى عن الأمر الطبيعى وهو طلب مساعدة ولاة الأمصار الأخرى لارسال الطعام للحجاز فقال:
"د- طلب المساعدة والنجدة من أهل الأمصار:
كتب الخليفة عمر بن الخطاب إلى عماله في الأقاليم الغنية "نقصد بالأقاليم التي فيها أموال من زراعة، وصناعة، وتجارة، يطلب منهم المساعدة وبستغيثهم، فكتب إلى كل عامل من عماله على بلاد الشام، ابعث إلينا من الطعام بما يصلح من قبلنا، فإنهم قد هلكوا، إلا ان يرحمهم الله، وكتب الى عماله في العراق وفارس مثل ذلك، فكلهم أرسلوا إليه وذكر الطبري (ت 310 هـ)، ان أول من قدم إليه هو أبو عبيدة بن الجراح،في أربعة آلاف راحلة، فولاه عمر في قسمتها حول أطراف المدينة، فلما أكمل توزيع المواد رجع إليه، ثم أمر له فيها بأربعة آلاف درهم، فقال لا حاجة لي فيها يا أمير المؤمنين، إنما أردت الله وما قبله، فلا تدخل علي الدنيا، فقال خذها فلا بأس في ذلك إذا لم تطلبه، فأبى، فقال: خذها فاني قد وليت لرسول الله (ص)، مثل هذا، فقال لي مثل ما قلت لك، فقلت له: كما قلت لي فأعطاني، فقبل أبو عبيدة وانصرف مع عماله، فتتابع الناس واستغنى أهل الحجاز
وكان والي بلاد الشام معاوية بن ابي سفيان قد بعث، الطعام من ولايته، فبعث الخليفة عمر بن الخطاب من يتلقاه بافواه الشام، يصنع كالذي يصنع عمر، وكانوا يطعمون الناس الدقيق، وينحرون لهم الجزر، ويكسونهم العباءة ، وبعث والي العراق سعد ابن أبي وقاص بمثل ذلك، فارسل اليه من لقيه بافواه العراق، فجعلوا ينحرون الجزر، ويكسونهم العباءة، حتى رفع ذلك القحط عن المسلمين وكتب الخليفة عمر بن الخطاب الى عمرو بن العاص والي مصر، عام الرمادة بسم الله الرحمن الرحيم: سلام عليك، أما بعد أفتراني هالكا ومن قبلي وتعيش أنت ومن قبلك؟ فيا غوثاه ثلاثا، قال: فكتب اليه عمرو بن العاص: بسم الله الرحمن الرحيم: لعبد الله أمير المؤمنين، من عمرو بن العاص، سلام عليك، فاني احمد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعدك: أتاك الغوث، فالريث، الريث، لابعثن إليك بحمل الف بعير قافلة اولها عندك واخرها عندي مع أني أرجوا ان أجد سبيلا ان احمل في البحر، فبعث عمرو بن العاص: على البر ألف بعير تحمل الدقيق، وبعث في البحر عشرين سفينة تحمل الدقيق والزيت، وأرسل مع المواد بخمسة الاف كساء
وشرع عمر بن الخطاب ، في توزيع الاكل والمواد الغذائية على أهل المدينة ومن لاذوا بها من الإعراب، وسير جزءا آخر من المواد إلى البادية، وكان قد أمر بتوزيعه على أحباء العرب جميعا، وقال الزبير بن العوام : قال لي عمر عام الرمادة، وقد أمرني بقيادة قافلة من الابل فيها الدقيق والسمن لنجدة اهل البادية، وقال لي أخرج في أول هذه العير (القافلة) فاستقبل بها نجدا، فاحمل إلى كل أهل بيت، قدر ان تحمل لي، وان لم تستطيع حمله، فمر لكل بيت بعيد ما عليه من المتاع، ومدهم بالأكسية فيلبسون كساء واحد في الشتاء، والآخر في الصيف، وينحرو البعير فليحفظوا شحمه، وليقددوا لحمه، ثم ليأخذوا شحما ودقيقا فيطبخوا ويأكلوا حتى يأتيهم الله برزقه ، وجعل عمر يرسل إلى الناس مؤونة شهر بشهر، مما يصله من الأمصار من الطعام والكساد، واستمرت القدور العمرية الضخمة، يقوم عليها عمال مهرة يطبخون من بعد صلاة الفجر، ثم يوزعون الطعام على الناس
و- توزيع المساعدات الاقتصادية على الأعراب:
قدم الإعراب عام الرمادة إلى عمر من كل ناحية، قد أمر رجالا يقومون بمصالحهم، فكان يقول لهؤلاء الرجال: أحصوا من تعشى عندنا، فاحصوهم من القابلة، فوجدوهم سبعة الاف رجل، ثم أحصوا الرجال والمرضى والنساء والعيالات فكانوا أربعين الفا، ثم بعد ايام بلغ الرجال والعيال ستين الفا، فما برحوا المدينة حتى أرسل الله المطر، فلما أمطرت وكل عمر بن الخطاب ، قوما من هؤلاء النفر بناحيتهم يخرجون الى البادية ويعطونهم قوتا أي طعاما، محملة على الابل الى باديتهم، وكان عمر يخرجهم بنفسه، وكان عمال عمر ، يعملون الطعام والعصائد ويطعمونها للناس، وكان عمر يأمر بالزيت فيقار في اقدور الكبار حتى تذهب حمته وحره، ثم يثرد الخبز ثم يؤدم الطعام بالزيت ، وشاركه في هذه الأعمال من الصحابة المسور بن محزمة ، عبد الرحمن بن عبد القارئ ، وعبد الله بن عتبة بن مسعود ، في حين ساعده غيرهم في توزيع المواد الغذائية على الناس وكان هؤلاء الصحابة امراء على نواحي المدينة، يتفقدون احوال الناس الذين اجتمعوا حولها هربا من المجاعة وطلبا للرزق ويشرفون ايضا على تقديم الطعام والادام، فاذا امسوا التقوا بعمر عارضين عليه ما واجههم من مشكلات آخذين بمشورته وتوجيهه في حلها
وكان عمر بن الخطاب يطعم الإعراب من دار الدقيق وهي من المؤسسات الاقتصادية التي كانت ايام عمر ، توزع على هؤلاء الوافدين على المدينة من الدقيق والسويق والتمر، والزبيب، وهي مخزونة في الدار، قبل ان تأتي المؤن من مصر والشام والعراق وخرسان، وهذا يدل على عقلية عمر بن الخطاب العبقرية في تطوير مؤسسات الدولة الاقتصادية وغيرها وكان عمر يشتغل في هذه المؤسسات بنفسه
قال الصحابي الجليل أبو هريرة : يرحم الله ابن حنتمة لقد رأيته عام الرمادة وانه يحمل على ظهره جرتين وعكة زيت في يده، وانه ليتعقب هو ومولاه أسلم، فلما رأني قال: من اين يا ابا هريرة؟ قلت قريبا، قال فأخذت اعقبه فحملناه حتى انتهينا، الى منطقة، فإذا صرم فيها نحو عشرين بيتا من بني محارب فقال لهم عمر: ما أقدمكم؟ قالوا: الجهد، فاخرجوا لنا جلدا من جلود الأغنام الميتة، وكان مشويا ويأكلونه ومعه رمة عضام مسحوقة، وكانوا يأكلونها، فرأيت عمر طرح رداءه ثم اتزر، فما زال يطبخ لهم حتى شبعوا، ثم أرسل إلى المدينة فجاء بابعرة "يعني عددا من الأبل" فحملهم عليها، حتى أنزلهم منطقة الجبانة ثم كساهم بالملابس الموجودة في بيت مال المسلمين، حتى رفع الله عنهم الأزمة الاقتصادية "
ثم حدثنا الرجل عن شىء لا يمكن لخليفة يعرف حكم الله أن يفعله وهو وقف حد السرقة وهو ما يسمونه تعطيل الحد فلا يمكن لأحد ان يوقف حكم من أحكام الله لأم أحكام الله تراعى كل الظروف الممكن حدوثها ومنها المجاعة فمثلا لو أن الطعام وزع بالعدل بين الناس وقام أحدهم بسرقة نصيب أخر فهذا لا يمكن أن يوقف الحد عليه لأن هذه ليست جريمة سرقة فقط وإنما جريمة إفساد فى الأرض من الممكن أن تتسبب فى موت من سرق نصيبه جوعا ولو أن هذا حدث لتحول الأمر لفوضى شاملة بسبب تعطيل العقوبة ولكنها لازمة فى هذه الظروف لأنها ستسبب فى كارثة موت المسروق منهم طعامهم وقد تحدث السلمانى عن الوقف فقال:
"ط- وقف حد السرقة:
أوقف عمر حد السرقة في عام الرمادة، وهذا ليس تعطيلا لهذا الحد، كما يكتب البعض لان شروط التنفيذ لم تكف متوفرة، فالذي يأكل ما يكون ملكا لغيره بسبب شدة الجوع، وعجزه عن الحصول على الطعام، يكون غير مختار فلا يقصد السرقة، ولهذا مثلا لم يقطع عمر يد الرقيق "العبيد" الذين أخذوا الناقة وذبوحها، ولكن أمر سيدهم حاطب بن ابي بلتعة ان يدفع ثمنه، وقد قال عمر : لا يقطع في غدق ولا سنة الجدب والمجاعة"
كما قلنا لكل ظرف فى الواقع حكم فى كتاب الله ومن ثم لا يمكن وقف أو تعطيل حكم لقوله تعالى " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء"
ثم ذكر السلمانى مصيبة أخرى وهى تأخير دفع الزكاة فالزكاة لا يمكن تاخيرها لأنها مرتبطة بوجود مال فإن وجد مال بالحد المعين فقد وجبت فيه الزكاة وأما فى حالة عدم وجود المال فلا زكاة ومن ثم لا يمكن تأخير دفع الزكاة متى وجد المال لأن مال الزكاة مطلوب لسد جوع الأصناف السبعة
الزكاة شرعها الله لسد ضروريات الفئات السبع فلو أخرت لماتت تلك الفئات وتاخيرها هو ظلم بين لأنه بذلك وضع مصالح الأغنياء فوق الفئات الأخرى وهو ما يناقض العدل المشهور به الرجل
المعقول هو أنه لا زكاة على الزروع فى منطقة المجاعة لأنها هلكت وبالتالى هلكت الأنعام وأما أموال التجارة الأخرى كالمعادن وغيرها فهى لا تتأثر بالمجاعة
زد على هذا أن المجاعة استمرت تسعة شهور كما يزعمون ومن المعروف أن الزكاة غير زكاة الزروع مرتبطة بالحول أى مرور سنة على المال فغن كان المال قد بلغ خلالها الحد أخذت الزكاة وإن لم يبلغ فلا زكاة وقد حدثنا السلمانى عن تاخير الزكاة فقال:
و- تأخير دفع الزكاة:
لم يلزم عمر بن الخطاب الناس بدفع الزكاة الا بعد ان انتهت عام الرمادة إلا انتهت المجاعة وخصبت الأرض، بعد ذلك أمر في جمع الزكاة عام الرمادة ثم أخذها منهم بعد ان عدها دينا في ذمة القادرين منهم حتى يسد العجز، لدى الأفراد المحتاجين، وليبقي في بيت المال رصيدا بعد ان انفقه كله على الناس
قال يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: ان عمر كان قد أمر بتأخير صدقة عام الرمادة، فلم يلبث السعاة "جامعي اموال الصدقات، فلما كان عام قابل، ورفع الله ذلك الجدب، أمرهم ان يخرجوا عقالين فامرهم ان يتسموا عقالا ويقوموا عليه بعقال : فما وجد في بني فرازة، كلها إلا ستين فريضة، فقسم ثلاثون، وقدم عليه الساعي بثلاثين الباقية
وكان عمر بن الخطاب بعث مصدقا عام الرمادة، فقال له: اعط من أبقت له السنة غنما وراعيا، ولا تعط من ابقت له السنة غنمين وراعين
إذا نستطيع ان نقول ان هي تلك القيادة الناحجة، والقدوة الحسنة، وذلك هو القرار والإرادة الفاعلة، والإجراءات الهادفة في تنظيم شؤون الأمة، واشراف الدولة العربية الاسلامية على حاجة الناس، والسهر على أمنهم وراحتهم، هذا ما تم وحصل في عام الرمادة، حتى قضى الله أمرا مفعولا، وانفرجت الأزمة الاقتصادية، ورجعت الامور عادية الى حالتها الطبيعية، وانتهت ازمة عام الرمادة بفضل الله سبحانه وتعالى واستطاع الخليفة عمر بن الخطاب بتلك الإجراءات الاقتصادية المهمة التي عمل بها من أجل تجاوز الأزمة الاقتصادية، وكان قد سهر الليالي وعمل جاهدا، وصابرا من أجل تجاوز أزمة عام الرمادة، وقلة الامطار في تلك السنة سنة 18 هـ من خلافة عمر بن الخطاب "
يتبين مما سبق أن حادثة الرمادة لم تحدث أساسا لأن ما ذكر فيها هو اتهام صريح لعمر والصحابة المؤمنين بالجهل بالدين من خلال وقف حد السرقة وتأخير الزكاة وحتى الجهل بكيفية حل المشكلة وهو اتهام لهم أيضا بالظلم وتغليب مصالح الأغنياء على الفقراء من خلال تأخير دفع الزكاة واتهامهم بإشاعة الفوضى فى المجتمع من خلال وقف حد السرقة
الكتاب من تأليف عبد الله طه عبد الله ناصر السلماني من أهل العصر وموضوعه هو أزمة الرمادة كما قال فى البداية :
"وقد تعرضت العديد من الدول إلى المشكلات والازمات الاقتصادية عبر التاريخ، وفي تاريخنا العربي الاسلامي انموذج على حل هذه الأزمات، وهو عام الرمادة سنة 18 هـ خلافة عمر بن الخطاب ، اذ أصاب المدينة المنورة وما جاورها من المدن والبلاد، أزمة اقتصادية من قحط وجوع، وقلة امطار، أهلكت الناس وقد وقفنا في البحث على أبعاد هذه الأزمة وآثارها وما اتخذ من إجراء في مواجهتها حتى صرفها الله عن الأمة وانقذها من وطأتها "
البحث تاريخى ولكنه يتناول جوانب من الشرع ومن ثم لا يهمنا إن كان الحادثة وقعت أم لا ولكن المهم هو بيان حكم الله فيما قيل فى الأزمة فى كتب التاريخ
استهل السلمانى كلامه بتعرض كل شعب لأزمات اقتصادية لها مظاهرها السيئة فى مجالات الحياة المختلفة فقال :
"أزمة عام الرمادة الاقتصادية سنة 18 هـ/ 639 م من خلافة عمر بن الخطاب:
في التاريخ البشري المختلف تتعرض الأوضاع الاقتصادية شعب من شعوب الأرض، إلى كثير من الازمات، بالأخص تلك المفاجئة والطارئة، التي يكون لها تأثير خطير، وبالأخص في العصور التاريخية المبكرة، فلم يذكر التاريخ حالة انكماش واختلال في أمور الحياة، إلا ورافقها تدهور في الأوضاع الاقتصادية، وقد حفلت كتب التاريخ العربي الإسلامي بأدلة وأحداث كثيرة، شهدت غلاء الأسعار، والقحط، وتدهور في الحياة الاقتصادية، ورافقها انتشار الأمراض والأوبئة، وفقدان الأمن والنظام
وهنا تبرز أهمية حياة الشخصية التاريخية، التي تعلم الناس دروسا في الحكمة، وتدبير الأمور والأحداث، وقد تعرضت الدول إلى العديد من الأزمات الاقتصادية، التي تستلزم من القيادات ان تعمل على عبورها، وتكريس الجهد للتغلب عليها، فليس من العيب ان تنبت وتحدث المشكلات على طريق العمل، وتثور الأزمات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، فاقتحام المشكل وعبور الأزمات، هو دليل حياة وبشير أمل من أجل تجاوز الأزمة الاقتصادية "
ليس بالضرورة أن تترافق مع الأزمات الاقتصادية انتشار الأمراض واختلال الأمن ففى الأزمة الأولى للمسلمين بعد الهجرة للمدينة كانت المظاهر خالية من ذلك كما قال تعالى:
"ولنبلونكم بشىء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين"
فهنا المظاهر الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وفى الأزمة المصرية فى قصة يوسف(ص) لم يحدث لا هذا ولا ذاك من اختلال الأمن وانتشار الأمراض وكذلك لم تحدث مجاعة
بالقطع الأزمة المصرية تم علاجها قبل حدوثها حيث تم تخزين الطعام بطريقة سليمة وتوزيعه بطريقة عادلة عند حدوث الأزمة ومن ثم لم يشعر الناس بأى مظهر من مظهر الأزمة
وأما الأزمة بعد الهجرة فتم علاجها هى الأخرى بطرق مختلفة منها الصوم ومنها الاشتراك فى الطعام بمعنى أن كل من لديه طعام اقتسمه مع المسلمين الأخرين وقد صبر الكل على تناول وجبة فى اليوم أو أقل
تناول الرجل أزمة الرمادة فتكلم أولا عن سبب التسمية فقال:
"وعام الرمادة سنة 18 هـ/ 639 م من خلافة عمر بن الخطاب أنموذج شاهد على هذه الأزمات، إذ أصاب المدينة المنورة وما حولها، قحط وجوع ونقص شديد في الغذاء بعد أن أمسكت عن ذلك أزمة اقتصادية حادة حلت بالمجتمع العربي الإسلامي في المدينة المنورة وبقية أطراف شبه جزيرة العرب ، والتي سنتكلم عن هذه الأزمة بالشكل الآتي:-
أولا: سبب تسمية العام الرمادة
وقد تعددت الآراء في تعليل التسمية، التي أطلقها المؤرخون على عام الرمادة، واقتران تسمية ذلك العام بها فقال ابن منظور (ت 711 هـ) عام الرمادة، معروف سمي بذلك الاسم، لان الناس والأموال هلكت فيه، وقيل هي الجدب: تنابع النظر فتبصر الأرض والشجر، مثل لون الرمادة وسميت عام الرمادة لان الأرض اسودت بسبب قلة الأمطار، حتى أصبح لونها شبيها بالرماد، وقيل أنها كانت تسفي الريح ترابا كالرمادة إذن نلخص هذا القول: ان الرمد: تعني الشيء جعله من الرماد أي أمحلوا: لم يبق لهم شئ، وصار لون الأرض مثل لون الرماد
وهذا دليل على ان الأرض في المدينة المنورة وما حولها، وبالاحرى شبه جزيرة العرب قد امحلت بسبب قلة الأمطار، وهذا الجدب فقلة الغذاء والرزق قد أثر في الناس والزروع والمواشي وقد وصف ابن سعد (230 هـ) الحالة بقوله: وقد أجدبت الناس سنة 18 هـ بأرض الحجاز، وتوجه الناس إلى المدينة المنورة، مركز الخلافة الإسلامية، ولم يبق أحدا منهم في البادية، وكانت مدة الأزمة هي تسعة أشهر فقد قام الخليفة عمر بن الخطاب وهو خليفة المسلمين بإنفاق الأموال من بيت مال المسلمين وتقديما إلى الناس الذي هم بأمس الحاجة إلى الغذاء والملابس بسبب عام المجاعة "
ليس بالضرورة أن ترجع التسمية للون تراب الأرض الجاف بسبب قلة الأمطار فقد ترجع إلى الرمد وهو التعب الذى أصاب الناس من الجوع مثل رمد وهو تعب العيون زد على هذا أن الأرض فى شبه الجزيرة أساسا أرض رملية وأرضها الزراعية لكونها صحراء ستكون رملية صفراء ولن تكون طينية إلا نادرا
ويبين السلمانى ان المؤرخين اختلاف فى أى سنة وقعت الأزمة فقال :
"ثانيا: تاريخ الأزمة الاقتصادية:
اختلف المؤرخون في تحديد عام الرمادة الى رأيين فذهب الأول فرأى أن عام الرمادة كان سنة ثماني عشرة من الهجرة النبوية الشريفة، والى ذلك ذهب ابن اسحاق(ت 151 هـ)، وابو معشر السندي (ت 170 هـ) ومحمد بن سعد (ت 230 هـ) ، وخليفة بن خياط (ت 240 هـ) ، واليعقوبي (ت 291 هـ) ، ومحمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) ، وابن حبان البستي (10)، وابن الأثير الجزري (ت 630 هـ) (11)، والذهبي(ت 748 هـ) ، وابن كثير (ت 774 هـ) أشار إلى سنة 18 هـ، من المؤرخين المحدثين، عمر فروخ ، ومحمد علي الصلابي
أما الرأي الثاني: فذهب إلى ان عام الرمادة كان سنة 17 هـ، واليه ذهب السيوطي (ت 911 هـ) ، وتابعه محمد سعيد رمضان البوطي ، ومن دراستنا لتاريخ عام الرمادة نستطيع ان نجزم بان عام الرمادة كان عام 18 هـ، وليس عام 17 هـ، بدليل إجماع معظم المؤرخين والمحدثين القدامى على ذلك وما ذكره السيوطي (ت 911 هـ)، وهو مؤرخ متأخر اعتمد فيه السيوطي على مؤرخ انفرد بقوله هو سيف بن عمر الذي عاش في زمن الخليفة هارون الرشيد، إذ ذهب الى ان عام الرمادة كان سنة 17 هـ واوائل سنة 18 هـ "
هذا الاختلاف والتناقض كما الحال فى معظم الروايات يؤدى بنا إلى القول أن الأزمة أساسا لم تحدث لأن الكتب المعتمد عليها كأساس للروايات فابن إسحاق والسندى كتبهما ضعيفة فى الإسناد وهما فى كتب الجرح والتعديل غير موثقين
ونلاحظ الخبل فيما نقله السلمانى وهو أن سبب حدوث الرمادة هى شرب أفراد يعدون على أصابع اليدين الخمر ورغم توبتهم وعقابهم أكد الخليفة أن بسبب هذا الشرب يصيب المسلمين شرفى المستقبل وقد تحقق فى الرمادة وفى هذا قال السلمانى:
"ثالثا: سبب الأزمة الاقتصادية:
من دراستنا للمصادر التي كتبت عن الأزمة الاقتصادية في سنة 18 هـ، تبين ان أبرز اسبابها يتمثل في قلة الأمطار والقحط ويعلل الخليفة عمر بن الخطاب ذلك بقوله: هي إرادة الله سبحانه وتعالى شاءت ان تحبس المطر والجفاف الذي أصاب الارض والناس، ويعزو السبب إلى تركهم التمسك بما أمرهم الله، فيرى ان أبا عبيدة بن الجراح كتب إلى عمر بن الخطاب يقول له: "ان نفرا من المسلمين أصابهم الشراب منهم ضرار ، وابو جندل فسألتهم فتأولوا، وقالوا: خيرنا فاخترنا قال: هل انهم منتهون يعني فانتهوا فجمع الناس فاجتمعوا، على ان يضربوا ثمانين جلدة، فان أبى قتل، فكتب عمر إلى أبي عبيدة، ان دعهم، فان زعموا أنها حلال فاقتلهم، فان زعموا أنها حرام، فاجلدهم ثمانين جلدة، فبعث إليهم فسألهم على رؤوس الناس، فقالوا: حرام، فجلدهم ثمانين جلدة، وحد القوم، وندموا على لحاجتهم، وقال: يحدثن فيكم أهل الشام، حادث، فحدثت، "الرمادة"
ونلاحظ الخبل هنا هو أن الرواية تقول أن الحادث يقع فى الشام وهو قول الرواية يحدثن فيكم أهل الشام، حادث، فحدثت، "الرمادة" ومع هذا فالبحث يقول ان الرمادة كانت فى الحجاز وهو قول السلمانى " وقد أجدبت الناس سنة 18 هـ بأرض الحجاز"
ويحدثنا السلمانة عما اتخذه الخليفة لحل الأزمة فقال :
"رابعا: إجراءات عمر بن الخطاب لمواجهة الأزمة الاقتصادية:
يستمد جزء من قوة الاقتصاد من قوة النظام السياسي، ويشمل التنظيم عادة، وسيلة لضمان بلوغ العمل وأهدافه، وكذلك الأمر يتطلب تحفيز كل الأطراف للتفكير بالصيغ الأكثر صلاحية في تنظيم العمل، وللوفاء بمتطلباته وتحقيق أهدافه وما يتناسب مع الظروف مرصدا وإستراتيجيا
وتميز عمر بن الخطاب ببراعته وحنكته السياسية والإدارية والاجتماعية، وإحاطته واشرافه على شؤون الرعية بنفسه إذ كان يرى ويشاهد يتجول في الاسواق ويعس بالليل، ويضع نفسه في الظروف التي تكفل له ان يعيش الأوضاع الاقتصادية نفسها التي تعيش فيها الرعية، فأحس بمشكلات الناس، ووضع الحلول المناسبة لها، وقال ابن منظور (ت 711 هـ) "انه كان يعس في المدينة، أي يطوف بالليل، ويحرس الناس، ويكشف أهل الريبة"
وقد وصف عمر سياسته تجاه هذه الأزمة الخانقة في قوله: لئن أصاب الناس سنة لأنفقن عليهم من مال الله ما وجدت درهما، فان لم أجد ألزمت كل رجل رجلا ، وأضاف عمر بن الخطاب أيضا: لو لم أجد للناس من ما يسعهم، إلا ان أدخل على كل أهل بيت عدتهم فيتقاسموا أنصاف بطونهم، حتى يأتي الله بخبر ما فعلت، فأنهم لن يهلكوا على أنصاف بطونهم"
وما قاله السلمانى نقلا عن بطون الكتب من العس والحراسة وكشف أهل الريبة لا علاقة له بالمجاعة وما له علاقة هو ما قاله من اقتسام الناس الطعام حتى لو جاعوا جميعا وإن كان هذا الحل يدل على أن الخليفة ومن حوله كانوا يعيشون فى دولة تقتصر على الحجاز فقط وهو ما يناقض إنها دولة كانت مترامية الأطراف فيها ولايات كثيرة عندها محاصيل وافرة
بالقطع الحادثة لم تحدث أساسا وما يروى هنا هو اتهام للخليفة بالغباء وقلة العقل فالخليفة كان سيأمر الولاة على الأمصار أن يرسل كل منهم المحاصيل ليوزعها على الناس فى المنطقة المنكوبة وهذا يعرفه كل من له أدنى معرفة بقوله تعالى "وتعاونوا على البر والتقوى"
كما يتناقض مع ما روته تلك الكتب من رسائل متبادلة بين عمر وعمرو بن العاص مثلا الذى قال له إنه سيرسل له قوافل أولها عند الخليفة وأخرها عند عمرو فى مصر حيث ذكر كتاب البداية والنهاية لابن كثير "فكتب أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب إلى عمرو ابن العاص في مصر " واغوثاه واغوثاه واغوثاه " فقال عمرو بن العاص والله لأرسلن له قافله من الأرزاق أولها في المدينة واخرها عندي في مصر"
بعد أن استنفذ بيت المال ولم تنته الأزمة كاتب عمر الأمصار طالباً العون فجاءه المدد من أبي عبيدة عامر بن الجراح ومن أبي موسى الأشعري فأرسل إليه عمرو بن العاص بألف بعير تحمل الدقيق، وبعث في البحر بعشرين سفينة تحمل الدهن، وبعث إليه بخمسةِ آلاف كِساء، وأرسل إلى سعد بن أبي وقاص فأرسل له بثلاثةِ آلاف بعير تحمل الدقيق، وبعث إليه بثلاثةِ ألاف عباءة، وأرسل إلى والي الشام فبعث إليه بألفي بعير تحمل الزاد، ونحوُ ذلك مما حصل من مواساة المسلمين لبعضهم واستمر هذا الحال في الناس تسعة أشهر ثم تحول إلى الخصب والدعة وانتشر الناس عن المدينة إلى أماكنهم "
ويبين السلمانى أفعال عمر لحل الأزمة فقال:
"ويمكن للباحث ان يلحظ الخطوات التي سار عليها الخليفة عمر بن الخطاب في مواجهة الأزمة الاقتصادية، وكانت كالآتي:-
أ- ضرب القدوة للناس من نفسه:
أوردت الروايات التي وردتنا مواقف لعمر بن الخطاب كان فيها القدوة للناس في الصبر على الازمة ومنها مثلا: أقسم عمر بن الخطاب على نفسه، ان لا يذوق سمنا، ولا لبنا، ولا لحما، حتى يحيا الناس جميعا أي ان يأكل المسلمون جميعا، السمن، اللبن، واللحم ، فدخل يوما القهرمان ، له السوق فاشترى وطبا من لبن، وعكة من سمن، فقال له عمر، بكم ابتعتها، قال: أربعين درهما، فقال: يا أمير المؤمنين: أبر الله يمينك وعظم أجرك، فقام عمر وبره أي وبخه، وقال: ومن أين أحيي الناس، ولم يأكل من الطعام الذي طلبه له وفي رواية ثانية يضرب لنا الخليفة عمر بن الخطاب ، مثلا رائعا في البر والتضحية من اجل المسلمين، فيروي عن عبد الله بن عمر ما: انه قال: ان عمر دخل عليه وهو على صدر فراشه، فرحب بأمير المؤمنين، ووضع عمر يده في الطعام، فلقم لقمة وقال: بسم الله، ثم ثنى فقال لاني لاجد طعم دسم، ما هو بدسم لحم، قال: يا امير المؤمنين طلبت السمين من اللحم فوجدته غاليا، وكنت أحبه أن يتوازى أهل بيتي عظما عظما، فاشتريت بدرهم من يهودي، وحملت عليه درهما سمنا، فقال عمر ، ما اجتمعنا عند رسول الله (ص) إلا وتصدق باحدهما، وأكل الآخر، فقال له عبد الله: يا أمير المؤمنين، فوالله لاجتمعان عندي، إلا وتصدقت باحدهما، وأكلت بالآخر، فقال: ما أنا بالذي أعود عليه وفي رواية: أن عمر بن الخطاب : نهى ان يجمع السمن واللحم بينهما، فدخل عبيد الله بن عمر على أخيه عبد الله بن عمر، فقرب منه خبزا ولحما، فقال عبيد الله ما أنا بطاعم طعامكما، حتى تفرغ عليه سمنا، فقال عبد الله: ألم تسمع أمير المؤمنين! قال: ما أنا فاعل، فقالت: صفية بنت أبي عبيد، لا تحرم على أخيك الطعام، قال: فجاء بسمن فافرغ، فانه لموضوع ما مسه، إذا بصوت عمر بن الخطاب على الباب، فقال مالكم ولطعامكم، فأهوى بيده فوجد طعم السمن، فصال على الخادمة ضربا، فقالت الخادمة: لا ذنب لي: إنما انا خادم أفعل ما أمرت به، فتركها فقال علي: ببنت ابي عبيد؟ فضربها حتى سقط حماها ثم جالت تسعى وتركض حتى دخلت البيت واغلقت الباب دونه
ومن هاتين الروايتين تبين حرص الخليفة عمر بن الخطاب ، على ترك الإسراف في الأكل، وصنع نوع واحد من الطعام مثل اللحم من غير أن يضاف اليه السمن وكان الخليفة عمر بن الخطاب ، حرم على نفسه أكل اللحم عام الرمادة، حتى يأكل الناس جميعا، وكان لابنه عبيد الله بن عمر، بهمة، وهي نوع من انواع الطيور الداجنة، فجعلت في التنور، فخرج عمر بن الخطاب ، لما شم رائحتها، فقال: أظن احدا من أهلي قد اجترا علي، وكان هو مع نفر من أصحابه رضوان الله عليهم، فقال عمر: لغلامه أذهب فانظر، فدخل فوجدها في التنور، فقال له عبيد الله استرني سترك الله، فقال له: قد عرف وأرسلني اليك، لن أكذبه، فاستخرجها، ثم جاء بها فوضعها بين يديه، فاعتذر الى أصحابه ان يكون قد علمه، فقال: عبيد الله: أنها كانت حقا لابني، وكنت قد اشتريتها له من شدة شهوة أكل اللحم ، ان تقشف عمر بن الخطاب ، لم يكن مجرد عبادة، وإنما كان منهجا للرعية، من ناحية ووسيلة الإحساس بمشكلاتها من ناحية أخرى ، ومبدأه في ذلك قوله تعالى "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا وأستمتعتم بها"
وقد تأثر الخليفة عمر بن الخطاب في عام الرمادة، حتى تغير لونه، فروى الصحابي الجليل عياض بن خليفة ، قال: رأيت عمر عام الرمادة، وهو اسود اللون، ولقد كان ابيض، فتقول مم ذا؟ فيقول كان رجلا إعرابيا، وكان يأكل السمن، واللبن، فلما أمحل الناس اصابتهم المجاعة، حرمها حتى يحيوا، فأكل الزيت، فتغير لونه وجاع وأكثر وكان أكل عمر عام الرمادة خبز وقد ثرد بالزيت حتى اذا كان يوم نحر فيه جزورا وهي صغير الإبل فطعم الناس وغرفوا من طيبها فأتى به، فإذا قطعة من سنام وكبد، فقال: اني هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، الجزور التي نحرنا اليوم، فقال: بخ بخ، بئس الوالي ان أكل طيبها، وأطعمت الناس كراديسها، ارفع هذه الجفنة، هات لنا غير هذا الطعام، قال: فأوتي بخبز وزيت، قال: فجعل يكسر بيده ويثرد ذلك الخبز، ثم قال: ويحك ما يرفأ أهل هذه الجفنة حتى تأتي بها أهل بيت يثمغ فاني لم أذهب إليهم منذ ثلاثة أيام، واحسبهم مفقرين، ضعها بين ايديهم
هذا هو الفاروق عمر بن الخطاب ، وهذا هو من الحكم في الاسلام، يؤقر الرعية على نفسه، فيأكلون مما يأكل، وهو الذي يحمل من اعباء الحكم والحياة، أضعاف ما يحملونه، ويعاني من ذلك أضعاف ما يعانون، وهو في ذلك لا يضع القيود على نفسه وحدها، بل يسير بها لتقيد أفراد عائلته "أسرته"، فهم في نظر الخليفة عمر بن الخطاب ايضا يجب ان يعانوا أكثر مما يعاني الناس وذات يوم نظر عمر بن الخطاب الى بطيخة في يد بعض ولده، فقال: بخ بخ، يا أمير المؤمنين تأكل الفاكهة، وأمه محمد هزلى، فخرج الصبي هاربا، وبكى، فسكت عمر بعد ما سأل عن ذلك، وقالوا له: اشتراها بكف من نوى
ولقد كان إحساسه بسمؤولية الحكم أمام الله عزوجل، يملك عليه شعاب نفسه، فلم يترك وسيلة من الدين والدنيا كي يواجه بها الجدب والجوع وانقطاع الأمطار الا لجأ إليها، فكان دائم الصلاة، دائم الاستغفار، دائم الحرص على توفير الاقوات والمواد الغذائية للمسلمين، وكان يفكر كثيرا في أمور رعيته، وبخاصة من زحف منهم إلى المدينة المنورة، سبب الجوع، ومن بقى منهم في البادية، يواجه العبء كله بكفاية واقتدار، ثم بعد ذلك قسوة على النفس ما أروعها من قسوة حتى قال من كان له علم ومعرفة في تلك الازمة الاقتصادية: لو لم يدفع الله المحل وانقطاع الأمطار، ويبس الأرض، عام الرمادة، لظننا ان عمر يموت حمسا بأمر المسلمين وهذا دليل وتأكيد على حرص امير المؤمنين على أرواح المسلمين، فمثلا روي عن الامام الزهري (ت 124 هـ) : ان عمر بن الخطاب انه كان يصلي من جوف الليل في مسجد رسول الله (ص) زمان الرمادة، نقصد به عام الرمادة، وكان يقول: اللهم لا تهلكنا بالسنين وارفع عنا البلاء "
ما يروى هنا عن تحريم عمر اللحم والفاكهة والسمن وغير ذلك على نفسه كلام مخالف للشرع فلا يجوز لأحد مهما كان أن يحرم ما اخل الله ولقد لام الله نبيه (ص) على ذلك فقال :
" يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك"
ومن ثم لا يمكن لعمر أن يكرر هذه الفعلة وإنما يمنع نفسه من تناول تلك الأشياء بلا تحريم وهذه اغلروايات دليل على ان حادثة الرمادة لم تحدث أنها تنسب عمر إلى الجهل بدين الله هنا وفيما سيأتى بعد
وقد تناول السلمانى
ب- الاستغاثة بالله:
روي أن عمر بن الخطاب قال: عام الرمادة سنة 18 هـ، يا أيها الناس، أدعوا الله ان يذهب عنكم المحل، وهو يطوف أي يتجول في المدينة المنورة وعلى رقبته درة وكان الخليفة عمر بن الخطاب إذا صلى المغرب، نادى: يا أيها الناس استغفروا ربكم ثم توبوا اليه، وسلوه من فضله، واستسقوا سقيا رحمة لاسقيا عذاب، فلم يزل كذلك حتى فرج الله ذلك وخطب عمر بن الخطاب ، في عام الرمادة أيضا: فقال: يا أيها الناس، أتقوا الله في أنفسكم، وفيما غاب عن الناس من أمركم، فقد ابتليت بكم وما ادري ابتليتم بي، فما أدري السخطة علي دونكم او عليكم دوني، او قد عمتني وعمتكم، فمهلوا، فلندع الله يصلح قلوبنا، وان يرحمنا، وان يرفع عنا المحل، قال: فرئي عمر يومئذ رافعا يديه يدعوا الله، ودعا الناس، وبكى وبكى الناس مليا، ثم نزل من المنبر
روى الإمام الشعبي (ت 104 هـ) : ان عمر : قام على منبر رسول الله (ص)، فقرأ هذه الآيات: " استغفروا ربكم إنه كان غفارا " ، وقوله تعالى " استغفروا
ربكم ثم توبوا إليه " ، ثم نزل من المنبر فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما منعك ان تستيقي؟ قال: طلبت المطر ، بمحاديج السماء التي ينزل بها المطر
وقال زيد بن أسلم عن أبيه : قال سمعت عمر بن الخطاب يقول: أيها الناس أني أخشى ان تكون سخطة عمتنا فاكتبوا ربكم وأفزعوا اليه وأحدثوا خيرا "
الاستغاثة بالله مطلوبة وواجبه وأما صلاة الاستسقاء وهو دعاء فواجب ولكن ما يثبت أن الرمادة لم تحدث أن يكون عمر والعباس وكبار المسلمين جهلة بدين الله فيتخذوا العباس واسطة تقرب إلى الله فيتوسلوا إلى الله به ولا نجد من ينكر ذلك وفى هذا نقل السلمانى:
"ج- صلاة الاستسقاء في خلافة عمر بن الخطاب :
لما اجمع عمر بن الخطاب ، على أن يستسقى ويخرج للناس، كتب إلى عماله، ولاة الأقاليم، ان يخرجوا يوم كذا، وساعة كذا، وان يتضرعوا إلى الله ويطلبون أن يرفع المحل عنهم وقلة الأمطار عنهم، قال: وخرج ذلك وعليه برد رسول الله (ص)، حتى انتهى الى المصلى، فخطب الناس وتضرع الى الله، وجعل الناس يلحون، في طلباتهم الى الله، فما أكثر دعاءه الى الاستغفار، حتى قرب ان ينصرف، رفع يديه مرا، وحول رداءه فجعله الى اليمين، الى اليسار، ثم من اليسار إلى اليمين، ثم مر يديه، وجعل يلح في الدعاء، وبكى عمر بكاء طويلا حتى أخضلت لحيته
وخرج معه العباس بن عبد المطلب ، فخطب وأوجز وصلى ثم ثنى على ركبتيه، وقال: اللهم عجزت عنا انصارنا، وعجزنا حولنا، وقوتنا، وعجزت عنا أنفسنا، ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم فاستقنا واحيي البلاد والعباد، ثم أخذ بيد العباس بن عبد المطلب، عم رسول الله (ص)، وان دموع العباس لتنحدر على لحيته، فقال: اللهم نتقرب بعم نبيك (ص)، هو وبقية أباءه، فانك تقول وقولك الحق: "وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحا" فحفظتهما بصلاح أبائهما، فاحفظ اللهم نبيك (ص) في عمه، فقد لذنا به اليك، مستشفعين مستغفرين، ثم أقبل على الناس، فقال: استغفروا ربكم انه كان غفارا وكان العباس قد طال وعمر، وعيناه تذرفان الدمع، ولحيته تجول على صدره، وهو يقول: اللهم انت الراعي فلا تهمل الضالة، ولا تدع الكبر بدار مضيعة، فقد فزع الصغير، ورفق الكبير، وارتفعت الشكوى، وانت أعلم السر وأخفى، اللهم فاغثم بغياثك، قبل ان يقطنوا فيهلكون فانه لا ييأس من روحك الا القوم الكافرون
فنشأت طيرة من سحاب، فقال الناس: ترون، ثم التأمت ومشت فيها ريح، ثم هدأت، فأمطرت فوالله ما نزحوا، حتى اعتنقوا الجدار، وقلصوا المأزر، فطفق الناس بالعباس عم الرسول (ص) هنيئا لك يا ساقي الحرمين، فقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
بعمي سقي الحجاز وأهله عشية يستسقي بشيبته عمر
توجه بالعباس في الجدب راغبا إليه فما قام حتى أتى ا لمطر
ومنا رسول الله فينا تراثه فهل فوق هذا للمفاخر مفتخر
وجاء في رواية أخرى، صفة ما دعا به العباس بن عبد المطلب في هذه الواقعة وهو قوله: اللهم انه لم ينزل بلاء الا بذنب ولم يكشف الا بتوبة، وقد توجه القوم بي اليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث، فأرخت السماء، مثل الجبال، حتى أخضب وعاش الناس
ويروي ان الخليفة عمر بن الخطاب ، قال في دعاء الاستسقاء، "اللهم انا نتقرب إليك بعم نبيك، فلا تخيب ظنهم في رسولك" وهذا قول صريح ومنهج واضح في حياة الأمة ودليل عملي اقتصادي في معالجة الأزمات، بالاشتراك مع الناس جميعا، فيما بينهم من مسؤولية الدولة وتدخلها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية
وفي رواية عمر بن شبة: ان عمر خرج يستسقي فتبعناه فلم يزل رافعا صوته ويديه: يقول: اللهم اغفر لنا انك كنت غفارا، حتى أتى الى المصلى يستسقي ويدعوا الناس معه، قال فلبثنا أياما، فانشأ الله سبحانه وتعالى سحابة بين الشام واليمن، ثم ساقها الله، حتى أمطرت البلاد بإذن الله وسالت السيول وسال بطحان ، والأودية التي معه، فخرج عمر الى بطحان، ينظر الى رحمة الله، ومواقع السيل، ويحمد الله ويثني عليه، ويكبر "
قطعا حكاية عمر والعباس والتوسل بالعباس هى اتهام للمسلمين جميعا بالجهل بدين الله وأنهم عادوا لأيام الجاهلية حيث كان القوم يتقربون بكبارهم زلفى إلى الله كما قال تعالى" والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى"
وحدثنا السلمانى عن الأمر الطبيعى وهو طلب مساعدة ولاة الأمصار الأخرى لارسال الطعام للحجاز فقال:
"د- طلب المساعدة والنجدة من أهل الأمصار:
كتب الخليفة عمر بن الخطاب إلى عماله في الأقاليم الغنية "نقصد بالأقاليم التي فيها أموال من زراعة، وصناعة، وتجارة، يطلب منهم المساعدة وبستغيثهم، فكتب إلى كل عامل من عماله على بلاد الشام، ابعث إلينا من الطعام بما يصلح من قبلنا، فإنهم قد هلكوا، إلا ان يرحمهم الله، وكتب الى عماله في العراق وفارس مثل ذلك، فكلهم أرسلوا إليه وذكر الطبري (ت 310 هـ)، ان أول من قدم إليه هو أبو عبيدة بن الجراح،في أربعة آلاف راحلة، فولاه عمر في قسمتها حول أطراف المدينة، فلما أكمل توزيع المواد رجع إليه، ثم أمر له فيها بأربعة آلاف درهم، فقال لا حاجة لي فيها يا أمير المؤمنين، إنما أردت الله وما قبله، فلا تدخل علي الدنيا، فقال خذها فلا بأس في ذلك إذا لم تطلبه، فأبى، فقال: خذها فاني قد وليت لرسول الله (ص)، مثل هذا، فقال لي مثل ما قلت لك، فقلت له: كما قلت لي فأعطاني، فقبل أبو عبيدة وانصرف مع عماله، فتتابع الناس واستغنى أهل الحجاز
وكان والي بلاد الشام معاوية بن ابي سفيان قد بعث، الطعام من ولايته، فبعث الخليفة عمر بن الخطاب من يتلقاه بافواه الشام، يصنع كالذي يصنع عمر، وكانوا يطعمون الناس الدقيق، وينحرون لهم الجزر، ويكسونهم العباءة ، وبعث والي العراق سعد ابن أبي وقاص بمثل ذلك، فارسل اليه من لقيه بافواه العراق، فجعلوا ينحرون الجزر، ويكسونهم العباءة، حتى رفع ذلك القحط عن المسلمين وكتب الخليفة عمر بن الخطاب الى عمرو بن العاص والي مصر، عام الرمادة بسم الله الرحمن الرحيم: سلام عليك، أما بعد أفتراني هالكا ومن قبلي وتعيش أنت ومن قبلك؟ فيا غوثاه ثلاثا، قال: فكتب اليه عمرو بن العاص: بسم الله الرحمن الرحيم: لعبد الله أمير المؤمنين، من عمرو بن العاص، سلام عليك، فاني احمد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعدك: أتاك الغوث، فالريث، الريث، لابعثن إليك بحمل الف بعير قافلة اولها عندك واخرها عندي مع أني أرجوا ان أجد سبيلا ان احمل في البحر، فبعث عمرو بن العاص: على البر ألف بعير تحمل الدقيق، وبعث في البحر عشرين سفينة تحمل الدقيق والزيت، وأرسل مع المواد بخمسة الاف كساء
وشرع عمر بن الخطاب ، في توزيع الاكل والمواد الغذائية على أهل المدينة ومن لاذوا بها من الإعراب، وسير جزءا آخر من المواد إلى البادية، وكان قد أمر بتوزيعه على أحباء العرب جميعا، وقال الزبير بن العوام : قال لي عمر عام الرمادة، وقد أمرني بقيادة قافلة من الابل فيها الدقيق والسمن لنجدة اهل البادية، وقال لي أخرج في أول هذه العير (القافلة) فاستقبل بها نجدا، فاحمل إلى كل أهل بيت، قدر ان تحمل لي، وان لم تستطيع حمله، فمر لكل بيت بعيد ما عليه من المتاع، ومدهم بالأكسية فيلبسون كساء واحد في الشتاء، والآخر في الصيف، وينحرو البعير فليحفظوا شحمه، وليقددوا لحمه، ثم ليأخذوا شحما ودقيقا فيطبخوا ويأكلوا حتى يأتيهم الله برزقه ، وجعل عمر يرسل إلى الناس مؤونة شهر بشهر، مما يصله من الأمصار من الطعام والكساد، واستمرت القدور العمرية الضخمة، يقوم عليها عمال مهرة يطبخون من بعد صلاة الفجر، ثم يوزعون الطعام على الناس
و- توزيع المساعدات الاقتصادية على الأعراب:
قدم الإعراب عام الرمادة إلى عمر من كل ناحية، قد أمر رجالا يقومون بمصالحهم، فكان يقول لهؤلاء الرجال: أحصوا من تعشى عندنا، فاحصوهم من القابلة، فوجدوهم سبعة الاف رجل، ثم أحصوا الرجال والمرضى والنساء والعيالات فكانوا أربعين الفا، ثم بعد ايام بلغ الرجال والعيال ستين الفا، فما برحوا المدينة حتى أرسل الله المطر، فلما أمطرت وكل عمر بن الخطاب ، قوما من هؤلاء النفر بناحيتهم يخرجون الى البادية ويعطونهم قوتا أي طعاما، محملة على الابل الى باديتهم، وكان عمر يخرجهم بنفسه، وكان عمال عمر ، يعملون الطعام والعصائد ويطعمونها للناس، وكان عمر يأمر بالزيت فيقار في اقدور الكبار حتى تذهب حمته وحره، ثم يثرد الخبز ثم يؤدم الطعام بالزيت ، وشاركه في هذه الأعمال من الصحابة المسور بن محزمة ، عبد الرحمن بن عبد القارئ ، وعبد الله بن عتبة بن مسعود ، في حين ساعده غيرهم في توزيع المواد الغذائية على الناس وكان هؤلاء الصحابة امراء على نواحي المدينة، يتفقدون احوال الناس الذين اجتمعوا حولها هربا من المجاعة وطلبا للرزق ويشرفون ايضا على تقديم الطعام والادام، فاذا امسوا التقوا بعمر عارضين عليه ما واجههم من مشكلات آخذين بمشورته وتوجيهه في حلها
وكان عمر بن الخطاب يطعم الإعراب من دار الدقيق وهي من المؤسسات الاقتصادية التي كانت ايام عمر ، توزع على هؤلاء الوافدين على المدينة من الدقيق والسويق والتمر، والزبيب، وهي مخزونة في الدار، قبل ان تأتي المؤن من مصر والشام والعراق وخرسان، وهذا يدل على عقلية عمر بن الخطاب العبقرية في تطوير مؤسسات الدولة الاقتصادية وغيرها وكان عمر يشتغل في هذه المؤسسات بنفسه
قال الصحابي الجليل أبو هريرة : يرحم الله ابن حنتمة لقد رأيته عام الرمادة وانه يحمل على ظهره جرتين وعكة زيت في يده، وانه ليتعقب هو ومولاه أسلم، فلما رأني قال: من اين يا ابا هريرة؟ قلت قريبا، قال فأخذت اعقبه فحملناه حتى انتهينا، الى منطقة، فإذا صرم فيها نحو عشرين بيتا من بني محارب فقال لهم عمر: ما أقدمكم؟ قالوا: الجهد، فاخرجوا لنا جلدا من جلود الأغنام الميتة، وكان مشويا ويأكلونه ومعه رمة عضام مسحوقة، وكانوا يأكلونها، فرأيت عمر طرح رداءه ثم اتزر، فما زال يطبخ لهم حتى شبعوا، ثم أرسل إلى المدينة فجاء بابعرة "يعني عددا من الأبل" فحملهم عليها، حتى أنزلهم منطقة الجبانة ثم كساهم بالملابس الموجودة في بيت مال المسلمين، حتى رفع الله عنهم الأزمة الاقتصادية "
ثم حدثنا الرجل عن شىء لا يمكن لخليفة يعرف حكم الله أن يفعله وهو وقف حد السرقة وهو ما يسمونه تعطيل الحد فلا يمكن لأحد ان يوقف حكم من أحكام الله لأم أحكام الله تراعى كل الظروف الممكن حدوثها ومنها المجاعة فمثلا لو أن الطعام وزع بالعدل بين الناس وقام أحدهم بسرقة نصيب أخر فهذا لا يمكن أن يوقف الحد عليه لأن هذه ليست جريمة سرقة فقط وإنما جريمة إفساد فى الأرض من الممكن أن تتسبب فى موت من سرق نصيبه جوعا ولو أن هذا حدث لتحول الأمر لفوضى شاملة بسبب تعطيل العقوبة ولكنها لازمة فى هذه الظروف لأنها ستسبب فى كارثة موت المسروق منهم طعامهم وقد تحدث السلمانى عن الوقف فقال:
"ط- وقف حد السرقة:
أوقف عمر حد السرقة في عام الرمادة، وهذا ليس تعطيلا لهذا الحد، كما يكتب البعض لان شروط التنفيذ لم تكف متوفرة، فالذي يأكل ما يكون ملكا لغيره بسبب شدة الجوع، وعجزه عن الحصول على الطعام، يكون غير مختار فلا يقصد السرقة، ولهذا مثلا لم يقطع عمر يد الرقيق "العبيد" الذين أخذوا الناقة وذبوحها، ولكن أمر سيدهم حاطب بن ابي بلتعة ان يدفع ثمنه، وقد قال عمر : لا يقطع في غدق ولا سنة الجدب والمجاعة"
كما قلنا لكل ظرف فى الواقع حكم فى كتاب الله ومن ثم لا يمكن وقف أو تعطيل حكم لقوله تعالى " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء"
ثم ذكر السلمانى مصيبة أخرى وهى تأخير دفع الزكاة فالزكاة لا يمكن تاخيرها لأنها مرتبطة بوجود مال فإن وجد مال بالحد المعين فقد وجبت فيه الزكاة وأما فى حالة عدم وجود المال فلا زكاة ومن ثم لا يمكن تأخير دفع الزكاة متى وجد المال لأن مال الزكاة مطلوب لسد جوع الأصناف السبعة
الزكاة شرعها الله لسد ضروريات الفئات السبع فلو أخرت لماتت تلك الفئات وتاخيرها هو ظلم بين لأنه بذلك وضع مصالح الأغنياء فوق الفئات الأخرى وهو ما يناقض العدل المشهور به الرجل
المعقول هو أنه لا زكاة على الزروع فى منطقة المجاعة لأنها هلكت وبالتالى هلكت الأنعام وأما أموال التجارة الأخرى كالمعادن وغيرها فهى لا تتأثر بالمجاعة
زد على هذا أن المجاعة استمرت تسعة شهور كما يزعمون ومن المعروف أن الزكاة غير زكاة الزروع مرتبطة بالحول أى مرور سنة على المال فغن كان المال قد بلغ خلالها الحد أخذت الزكاة وإن لم يبلغ فلا زكاة وقد حدثنا السلمانى عن تاخير الزكاة فقال:
و- تأخير دفع الزكاة:
لم يلزم عمر بن الخطاب الناس بدفع الزكاة الا بعد ان انتهت عام الرمادة إلا انتهت المجاعة وخصبت الأرض، بعد ذلك أمر في جمع الزكاة عام الرمادة ثم أخذها منهم بعد ان عدها دينا في ذمة القادرين منهم حتى يسد العجز، لدى الأفراد المحتاجين، وليبقي في بيت المال رصيدا بعد ان انفقه كله على الناس
قال يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: ان عمر كان قد أمر بتأخير صدقة عام الرمادة، فلم يلبث السعاة "جامعي اموال الصدقات، فلما كان عام قابل، ورفع الله ذلك الجدب، أمرهم ان يخرجوا عقالين فامرهم ان يتسموا عقالا ويقوموا عليه بعقال : فما وجد في بني فرازة، كلها إلا ستين فريضة، فقسم ثلاثون، وقدم عليه الساعي بثلاثين الباقية
وكان عمر بن الخطاب بعث مصدقا عام الرمادة، فقال له: اعط من أبقت له السنة غنما وراعيا، ولا تعط من ابقت له السنة غنمين وراعين
إذا نستطيع ان نقول ان هي تلك القيادة الناحجة، والقدوة الحسنة، وذلك هو القرار والإرادة الفاعلة، والإجراءات الهادفة في تنظيم شؤون الأمة، واشراف الدولة العربية الاسلامية على حاجة الناس، والسهر على أمنهم وراحتهم، هذا ما تم وحصل في عام الرمادة، حتى قضى الله أمرا مفعولا، وانفرجت الأزمة الاقتصادية، ورجعت الامور عادية الى حالتها الطبيعية، وانتهت ازمة عام الرمادة بفضل الله سبحانه وتعالى واستطاع الخليفة عمر بن الخطاب بتلك الإجراءات الاقتصادية المهمة التي عمل بها من أجل تجاوز الأزمة الاقتصادية، وكان قد سهر الليالي وعمل جاهدا، وصابرا من أجل تجاوز أزمة عام الرمادة، وقلة الامطار في تلك السنة سنة 18 هـ من خلافة عمر بن الخطاب "
يتبين مما سبق أن حادثة الرمادة لم تحدث أساسا لأن ما ذكر فيها هو اتهام صريح لعمر والصحابة المؤمنين بالجهل بالدين من خلال وقف حد السرقة وتأخير الزكاة وحتى الجهل بكيفية حل المشكلة وهو اتهام لهم أيضا بالظلم وتغليب مصالح الأغنياء على الفقراء من خلال تأخير دفع الزكاة واتهامهم بإشاعة الفوضى فى المجتمع من خلال وقف حد السرقة