ما اجمل التوبة لما تكون من قلب مذنب ،تمرغ في الذنوب والمعاصي ولكنه علم في الاخير بأن باب التوبة مفتوح لكل من طرقه ويد الله ممدودة لكل من تعلق بها..
فهذا (ابو نواس ) الذي ملأ الدنيا بقصائده عن الخمر والغزل الماجن حتى افردت له دواوين تسمى (الخمريات)،فبعد كل لهوه ولعبه علم انه اذا مد يده الى الله لن يرجعه خائبا .
فكانت هذه حاله يحب الخمر ويعاقرها وتؤنسه رفقتها:
دَعْ عَنْكَ لَوْمي فإنّ اللّوْمَ إغْرَاءُ **ودَاوني بالّتي كانَتْ هيَ الدّاءُ
صَفراءُ لا تَنْزلُ الأحزانُ سَاحَتها** لَوْ مَسّها حَجَرٌ مَسّتْهُ سَرّاءُ
مِنْ كَفّ ذات حِرٍ في زيّ ذي ذكرٍ** لَها مُحِبّانِ لُوطيٌّ وَزَنّاءُ
َقامْت بِإبْريقِها ، والليلُ مُعْتَكِرٌ **فَلاحَ مِنْ وَجْهِها في البَيتِ لألاءُ
فأرْسلَتْ مِنْ فَم الإبْريق صافيَة **ً كأنَّما أخذُها بالعينِ إعفاءُ
َرقَّتْ عَنِ الماء حتى ما يلائمُها **لَطافَة ً، وَجَفا عَنْ شَكلِها الماءُ
فلَوْ مَزَجْتَ بها نُوراً لَمَازَجَها** حتى تَوَلدَ أنْوارٌ وأَضواءُ
دارتْ على فِتْيَة ٍ دانًَ الزمانُ **لهمْ، فَما يُصيبُهُمُ إلاّ بِما شاؤوا
لتِلكَ أَبْكِي ، ولا أبكي لمنزلة ٍ** كانتْ تَحُلُّ بها هندٌ وأسماءُ
حاشا لِدُرَّة َ أن تُبْنَى الخيامُ لها** وَأنْ تَرُوحَ عَلَيْها الإبْلُ وَالشّاءُ
فقلْ لمنْ يدَّعِي في العلمِ فلسفة **ً حفِظْتَ شَيئًا ، وغابَتْ عنك أشياءُ
لا تحْظُرالعفوَ إن كنتَ امرَأًَ حَرجًا** فَإنّ حَظْرَكَهُ في الدّين إزْراءُ
لكنه في الاخير استفاق من غفوته،وندم اشد الندم على تقصيره في جنب الله ،فقال مناجيا ربه:
يا نواسيُّ تفكًّر = وتجمّل وتصبّر
ساءك الدهر بشئ = ولما سرّك أكثر
يا كبير الذنب عفو الله = من ذنبك أكبر
أكبر الأشياء عن = أصغر عفو الله أكبر
ليس للإنسان إلا = ما قضي الله وقدّر
ليس للمخلوق تدبير = بل الله المدبّر
ومن بديع شعره ما قاله وقد تصور نفسه مسجي علي فراش الموت , تقلبه الأيدى , ثم هو يغسل ويحنط ويكفن , ثم يحمل علي سرير الموت , ثم يبعث يوم القيامة , وقد فرّط في حق الله أيّما تفريط . يقول النواسي نادما ومناجيا نفسه وهو من روائع الشعر السهل الممتنع :
يا ليت شعرى كيف أنت علي = ظهر السرير وأنت لا تدرى
يا ليت شعرى كيف أنت إذا = غُسّلت بالكافور والسدْر
يا ليت شعرى كيف أنت إذا = وٌضع الحسابٌ صبيحة الحشر
ما حجتي فيما أتيت وما = قولي لربي بل وما عذرى
يا سوأتي مما اكتسبت ويا = أسفي علي ما فات من عمري
*****
وله ايضا
أخي ما بال قلبك ليس ينقي = كأنك لا تظن الموت حقا
ألا يا بن الذين فنوا وبادوا = أما والله ما بادوا لتبقي
وما لك فاعلمن فيها مقام = إذا استكملت آجالا ورزقا
وما لك غير ما قدّمت زاد = إذا جعلت إلي اللهوات ترقي
وما أحد بزادك منك أحظي = وما أحد بذنبك منك أشقي
*****
وله أيضا :
يا سائل الله فزت بالظفر = وبالنوال الهنيّ لا بالكدر
فارغب إلي الله لا إلي بشر = منتقل في البلي وفي الغير
وارغب إلي الله لا إلي جسد = منتقل من صبا إلي كبر
إن الذى لا يخيب سائله = جوهره غير جوهر البشر
مالك بالترهات مشتغلا = أفي يديك الأمان من سقر
*****
وله أيضا رحمه الله :
شاع فيّ الفناء علوا وسفلا = وأراني أموت عضوا فعضوا
ذهبت جِِدتي بطاعة نفسي = وتذكرت طاعة الله نِضوا
وله أيضا غفر الله لنا وله :
دع الحرص علي الدنيا = وفي العيش فلا تطمع
ولا تجمع لك المال = فما تدرى لمن تجمع
ولا تدرى أفي أرضك = أم في غيرها تضرع
*****
وله أيضا :
آيةَ نارِ قدحَ القادحٌ = وأىَّ جِدّ باغ المازحٌ
لله در الشيب من واعظ = وناصح لو حظي الناصح
يأبي الفتي إلا إتباع الهوى = ومنهج الحق له واضح
فاسمٌ بعينيك إلي نسوة = مهورهن العمل الصالح
لا يجتلي العذراء من خدرها = إلا امرؤٌ ميزانه راجح
من اتقي الله فذاك الذى = سيق إليه المتجر الرابح
*****
وله أيضا :
كن مع الله يكن لك = واتق الله لعلّك
لا تكن إلا مٌعدّا = للمنايا فكأنك
إن للموت لسهما = واقعا دونك أو بك
نحن نجرى في أفانين = سكون وتحرّك
فعلي الله توكّل = وبتقواه تمسّك .
*****
وله أيضا
سبحان علام الغيوب = عجبا لتصريف الخطوب
تغدو علي قطف النفوس = وتجتني ثمر القلوب
يا نفس توبي قبل أن = لا تستطيعي أن تتوبي
واستغفرى لذنوبك = الرحمن غفار الذنوب
إن الحوادث كالرياح = عليك دائمة الهبوب
والموت شرع واحد = والخلق مختلفو الضروب
والسعي في طلب التقي = من خير مكسبة الكسوب
ولقلما ينجو الفتي = بتقاه من لطخ العيوب
حقا ما اجمل التوبة بعد المعصية ،فبها تتحقق عبودية الخالق ..فيهرع العبد الضعيف الى ربه ،وهو يعلم يقينا بانه لن يرده خائبا فهو الرحمان اللطيف بعباده..