منتدى العلم والعمل والإيمان

مرحبا بك زائرنا الكريم ونرجو منك الانضمام إلى قائمة أعضائنا

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدى العلم والعمل والإيمان

مرحبا بك زائرنا الكريم ونرجو منك الانضمام إلى قائمة أعضائنا

منتدى العلم والعمل والإيمان

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى إسلامي علمي

دكتور أحمد محمد سليمان يتمنى لكم الإفادة والاستفادة


3 مشترك

    المفارقة في أدب نجيب محفوظ

    avatar
    د. أحمد الصغير المراغي
    عضو نشيط


    عدد المساهمات : 42
    تاريخ التسجيل : 24/09/2009

    المفارقة في أدب نجيب محفوظ Empty المفارقة في أدب نجيب محفوظ

    مُساهمة من طرف د. أحمد الصغير المراغي الأربعاء سبتمبر 30, 2009 2:41 am

    المفارقة في أدب نجيب محفوظ
    الكاتب د.أحمد الصغير
    الأحد, 07 يونيو 2009 16:48
    د.أحمد الصغير -
    أحلام فترة النقاهة للأستاذ نجيب محفوظ هي آخر ما كتب، فقد طرح في هذه الأحلام أفكاره وآراءه وأمنياته، فقد حاول أن يستشرف المستقبل لوطنه الحبيب مصر. ولهذا فقد أشار محمد الشربيني إلى أن هذه الأحلام "أحلام فترة النقاهة" "هي تلك القطع النادرة من الأدب القصصي التي استند فيها أستاذنا نجيب محفوظ حيث اتخذ منها بدايات بنى عليها تلك اللآلئ النادرة والتي تعكس نوعاً فريداً من أحلام رجل عظيم، أحلام منتقاه في رصد الواقع يمكن أن يتغير، تلك الأحلام التي يراها الأديب الكبير، فيها الكثير من خواطره وأمنياته في مستقبل الحياه / حياة وطن أحبه وعاش من أجله لقد استطاع الأديب الكبير أن يعمل عمل الصائغ الماهر لتلك القطع النادرة والنفسية يقدمها لنا وكأنها أجزاء من روحه و خلاصة عطاء السنين، لتصدر بريقاً صادقاً ينعكس على النفس فتهدأ وتتطهر." ([1]).
    وقد نشرت مجلة نصف الدنيا كتاباً تذكارياً بعد وفاة نجيب محفوظ في العدد 864، حوى بين دفتيه أحلام فترة النقاهة وقدم الفنان محمد حجي معرضاً فنياً، فقد كان الأستاذ نجيب محفوظ يرسل أحلامه وإلى المجلة لنشرها فترسلها المجلة بالفاكس قبل النشر إلى الفنان، يقرأ محمد حجي الأحلام ثم يستفز، فيبدأ في إبداع علمه التشكيلي في صورة رسوم مصاحبة بواقع لوحة مقابل كل قطعة من الأحلام.
    ومن ثم يمكن أن نلاحظ أن الفنان والأديب يمكنهما الانطلاق من أرضية واحدة هي البحث من الجديد داخل النفس. ويبقى الاختلاف في الوسيط المستخدم في العملية الفنية.
    والذي لا شك فيه أن نجيب محفوظ عُنى بقضايا وطنه والتي تشغله وراح بين حين وآخر، يشير إلى هذه القضايا، أو يومئ بإشارة سريعة من خلال أحلامه، فيقول في حلم رقم (140)
    هذه امرأة ثرية المحاسن ما أن رأيتها حتى غازلتها وإذ بزوجها ينقض علىًَّ ويأبى أن يتركني إلا في القسم ولكن تداخل رجل من حينا اشتهر بين معارفه بالدعوة إلى الحرية المطلقة ففررت بعد أن لقنني درساً لا ينسى ويتجسد لي كلما قابلت أمرأة حتى رأيت نفسي وجها لوجه مع المرأة الجملية فهممت بالجرى ولكنها أقبلت علىّ باسمة وتأبطت ذراعي وهي تهمس بأن زوجها اعتنق أخيراً دعوة الحرية المطلقة([2]).
    يتبدى لنا من خلال الحلم السابق أن الكاتب يطرح مفارقة مهمة وهي التحولات والتغيرات التي طرأت على المجتمع المصري ـ أو يتمنى أن تحدث، ويثير هذا الحلم أسئلة عدة، لماذا تحول هذا الرجل؟ وعدل عن فكرة؟ ومعتقداته؟ وانقلب من الضد إلى الضد. فقد اعتنق زوج المرأة أخيراً دعوى الحرية المطلقة، وقضية الحرية من أهم القضايا التي دافع عنها نجيب محفوظ دفاعاً شديداً. يرصد نجيب محفوظ هذه التحولات والتغيرات التي تدور في حلمه، وهنا تمكن المفارقة في هذا الحلم الذي صاغه محفوظ صياغة فنية أشبه بقصيدة نثر شديد التكثيف، فإنه يلج في بحور النفس الدفينة.
    وتتجلى المفارقة الحياتية في الحلم 141 فيقول:
    هذا حُّينا القديم الجميل وهذا
    أنا أجول في أركانه حاملاً في قلبي ذكرياته
    ثم خطر بي أن أقيم في البيت القديم حتى تخف
    أذمة المساكن ولكن تبين لي من أول يوم أنه لم يعد صالحاً للحياة الحديثة([3])
    يومئ نجيب محفوظ من خلال الحلم السابق إلى الحي والقديم الجميل الذي نشأ فيه وتربي وعاش أجمل مراحل حياته، فيتجول في هذا الحي القديم وهو يحمل ذكرياته في قلبه، ثم يطرح من خلال الحلم قضية كبيرة وهي أزمة المساكن التي تعيشها مصر، وارتفاع أسعارها، ويتمنى أن يقيم في هذا البيت القديم، وتقع المفارقة عندما يعدل عن هذه الفكرة أو الخاطر الذي خطر على عقله عندما يتبين له من أول يوم أنه لم يعد صالحاً للحياة الحديثة، فالقديم يتناقض تمام التناقض مع الحديث بل يرفض كل منهما الآخر، إذن يطرح نجيب محفوظ صراع الأجيال الذي لا يخلو عصر من هذه الصراعات العميقة بين القديم والجديد، لكن محفوظ في نهاية الحلم ينتصر للعصر الحديث، فيعود مرة أخري إلي الحياة الحديثة التي إرتضاها لنفسه مواكباً التقدم والرقي النهضوي ، فهو احد فرسان هذا الزمن الحديث/ الحياة الحديثة، وقد أتكأ محفوظ على الرمز بصورة كبيرة، فيرمز للجيل القديم بالبيت القديم والجيل الحديث، بالحياة الحديثة. وهذه هي روح المفارقة.
    وتتجلى لغة الأحلام بصورة مميزة، حيث إنه يميل إلى التكثيف الشديد الذي لا يخلو من مفارقات متعددة، فهو يختار مفرداته بعناية شديدة، مدققاً بشكل أو بآخر في اختيار هذه المفردات معبراً من خلالها عن أحلامه العميقة شديدة الخصوصية وعن هذه اللغة يقول الأستاذ عبد السميع عمر زين الدين في دراسته الرائدة التي جاءت بعنوان أصداء الأصداء، الآفاق الفكرية في صداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ: "في ومضات سريعة متلاحقة" تتوالى مقطوعات الأصداء تحملها لغة متدفقة شديدة الإحكام. كل مقطوعة منها تختص لمحة لمحة من فكر نجيب محفوظ، ما إذ نبدأ في قراءة الأصداء/ الأحلام حتى نجد أنفسنا تسعى لاهتين وراءها. مقطوعة بعد أخرى.... ولغة الأحلام/ الأصداء لغة من نوع خاص هي ليست شعراً، كما يقول محفوظ، وإن كانت على درجة عالية من الحساسية، تسودها أجواء شاعرية غاية في الرهافة. وهي ليست نثراً كالذي نعرفه فإيقاعها وتركيزها ومذاقها يجعلها أبعد كثيراً عن القوالب النثرية المألوفة وهي كذلك لا تنتمي إلى الجنس الثالث " قصيدة النثر" فبناؤها ومحتواها أعمق من أن نسمح بانتسابها إلى تلك الكتابات التي قد تكون مغرقة في الغموض والإلغاز"([4])
    هذه الأحلام التي كتبها محفوظ تنطلق من الأحلام الذاتية المرتبطة بالكاتب من ناحية والوطن من ناحية أخرى، والشعب من ناحية ثلاثة، لأنها أحلام كل إنسان مصري أصيل .. نحب وطنه يعمل من أجل تقدم هذا الوطن ورقية.
    وتظهر صورة المفارقة التي تحدث صدمة للقارئ/ المتلقي من ناحية وتعاطفاً من ناحية أخر مع صاحب الأحلام/ البطل الذي تدور حول الأحلام/ السارد المفكر والفجر لقضايا خاصة فيقول في حلم 147:
    دُعيتُ لاجتماع عاجل لسكان العمارة وهناك أطلعوني على قرار صادر ضدي بإخلاء الشقة ورحتُ أنا شدهم العدل وأنا شدهم الرحمة حتى قال صاحب العمارة إنها لم يعقد هذا الاجتماع للبحث عن العدل والرحمة ولكن للتأكد من مطابقة القرار للقانون([5]).
    يتبدى لنا من خلال قراءة الحلم السابق أن نجيب محفوظ شديد المكر والدهاء هو لا يقصد بالطبع العمارة، ولا الشقة، ولا أي شيء من ورد ولكنه يريد أن يستخدم هذه المفردات على سبيل الرمز، فالأحلام تتكئ على الرمز بصورة كبيرة، فالعمارة هي مصر، والسكان هم الشعب والقانون هو الدستور المصري وتعديلاته وصاحب العمارة هو الحاكم وسكان العمارة مجلس الشعب بأعضائه الكسالى . وهو البطل الذي تدور حوله الأحداث، فقد صدر قرار ضده/ بإخلاء الشقة/ بيته الذي يسكن فيه، وقد راح بالطبع يصرخ ويناشدهم الرحمة والعدل ولكن الحاكم المستبد لا يهمه العدل ولا تعنيه الرحمة، وإنما هو معنى بمدى مطابقة القرار للقانون، في قوله: قال لي صاحب العمارة إنه لم يعقد هذا الاجتماع للبحث عن العدل والرحمة ولكن للتأكد من مطابقة القرار للقانون وتقع المفارقة التي سجلها محفوظ من خلال هذا الحلم مفردتي العدل/ الرحمة من ناحية، ومطابقة القرار للقانون من ناحية أخرى.
    فالقانون لا يعرف الرحمة أو العدل. ولكن لا يطرح نجيب محفوظ أسباباً لصدور مثل هذا القرار لماذا أصدر هذا القرار ضده هو؟ أم أن لا توجد أسباب حقيقية، لكنه ترك القارئ يفكر في هذه الأسباب ويستنتج الإجابات، إنه بهذا الصنيع يجعل القارئ مشاركاً في عملية بناء النصي المحفوظي ومن ثمّ فإن أحلام فترة النقاهة نصاً مفتوح الدلالات، حمّال أوجه، إذا اتخذنا من المنهج التأويلي منطلقاً لنا، فاعتماده على الرموز التي تقوم بخلق مفارقات تكون شديدة الالتحام بالواقع الأليم الذي نحياه. ونلمسه، وقد جاء التركيب اللغوي لهذا الحلم، عميقاً وبسيطاً من ناحية وشديد الآثر والقوة من ناحية أخرى، وقد أشار الأستاذ عبد السميع عمر زين الدين إلي هذه اللغة المحفوظية ، نجد فيها الثراء والبساطة، والتكثيف والشفافية والصور الدارجة والشاعرية، والتراكيب الأليفة والغريبة، ونجد الرقة والحدّة والسلاسة والغموض، وذرا الخيال وأخاديد الواقع". ([6]) ومن ثمًّ فإن لغة الأحلام لغة مفارقة واهتم صاحب الأحلام بهذه اللغة اهتماماً شديداً جاءت قوية مكثفة كل مفردة كالسهم يخترق من القلب والعقل معاً. إنها تثير التفكير وتطرح الأسئلة المنوط بنا الإجابة عنها.
    ونلاحظ في أحلام فترة النقاهة أن نجيب محفوظ طرح أفكاره وآراءه السياسية والاجتماعية والثقافية وعلي سبيل المثال في قوله في حلم 149.
    يقول نجيب محفوظ:
    "اجتاحت الثورة المدينة وقُتل الملك وهو يدافع عن مدينته وسرعان ما أو لمت وليمة فاخرة لقادة الثورة ودعت الملكة زعيمها إلى جناحها الخاص وهناك استقبلته عارية تماماً كاشفه عن مفاتنها".
    الدفقةُ الشعورية الأولى تجيلنا إلى الاتكاء على التأويل في تحليل هذا الحلم، فقد يطرح هذا الحلم أسئلةُ مهمة اقتضاها التأويل وهي ما هي الثورة؟ ومن زعماء هذه الثورة؟ ومن الملكة التي دعت زعيمها إلى جناحها الخاص؟
    وتتجلى المفارقة بصورة متعددة الدلالات في بداية الحلم ونهايته.
    اجتاحت الثورة ......... الخ إلى: واستقبلته عارية تماماً كاشفة عن مفاتنها تُرى من هو الزعيم؟ وهل هي ثورة يوليو 1952 ؟ وهل هم الضباط الأحرار الذين أشار إليهم محفوظ بالقادة؟. إذا الملكة هي مصر التي كشفت جميع مفاتنها لزعيم الثورة وراح يجوب البلاد استبداد وفتكاً بالتنظيمات والتوجهات، للقضاء على أعداء الثورة في كل مكان مبرراً ذلك إن قادة الثورة يجب عليهم حمياتها من المغرضين والمفسدين التابعين للملك، ولكن هذا الحلم يجعلنا نقع في حيرة شديدة، يذكر نجيب محفوظ أن الملك قُتل وهو يدافع عن مدينته، ولكن الملك فاروق بعد قيام الثورة لم يقتل ولكنه طرد خارج مصر وقام اللواء محمد نجيب بتوديعه وذلك قد حدث في الإسكندرية. كما نعلم جميعاً. ولكن أظن أن نجيب محفوظ أن يريد أن يقول أن الملك قُتل قتلاً معنوياً بترحيله وطرده من مصر. ومن ثمُّ فقد نلاحظ رأي نجيب محفوظ السلبي من الثورة، لأنه قد وصفها بثورة العسكر لأنهم قاموا بالانقلاب العسكري ونصبوا أنفسهم حكاماً ومسئولين عن هذا البلد.
    ويتجلى البعد السياسي في أحلام فترة النقاهة بصورة طاغية وذلك من خلال حلم159:
    يقول نجيب محفوظ:
    تلقى بعض الحرافيش دعوى من الأستاذ سعد الدين وهبة فذهبنا إلى مقابلته وهناك رحًّب بنا وأطلعنا على بيان سيرفعه إلى كبار المسئولين لتطهير الهيئة من الساسة المنحرفين ودعانا إلى التوقيع عليه بإمضاءاتنا فاستجبنا بحماس وعند فجر ذلك اليوم اخترق بيوتنا زوار الفجر وساقونا ومعصوبي الأعين إلى المجهول. ([7])
    يتكئ نجيب محفوظ في هذا الحلم على استدعاء شخصيات محببة لديه، وشخصيات مكروهة من الجميع، فهو يستدعي الحرافيش/ بعض الحرافيش على حد قوله من مريديه وأحبابه وتلاميذه الذين جالسوه في فرح بوت، ومقهى ريش ...وغيرها... ثم يستدعي الكاتب الراحل الاستاذ سعد الدين وهبه المناضل الراحل الذي عرف بمواقفه السياسية والثقافية والواضحة فقد كان سعد الدين وهبة محبا لمحفوظ وكان محفوظ محباً لسعد الدين وهبة كلاهما يعشق الآخر، وكلاهما أيضاً يكره زوار للفجر وهذه التسمية قد أطلقت على البوليس السري (أمن الدولة) الذين يأتون في الفجر للقبض على السياسيين الذين يقاومون الفساد. وتبرز المفارقة التصويرية التي صورها نجيب محفوظ من خلال رصد هذا المشهد الدرامي/ الصراع بين الحق والباطل بين الحرية والعبودية، بين المثقف والسلطة المثقف يبحث عن الحرية وقتل الفساد، والسلطة تبحث عن المثقف تريد أن تفرض سياسة القمع وتترك المفسدين لأنهم من رعاياها وخدامها. وقد جاءت إجابة نجيب محفوظ عن سؤال طرحة الناقد الكبير فؤاد دوارة في حديث خاص معه السؤال: هي تستطيع أن توضح أكثر طبيعة فهمك لدور الأدب في الحياة؟
    وجاءت إجابة نجيب محفوظ متضمنة بطريقة مباشرة ما جاء في حلمه السابق فيقول: " دور الأدب في الحياة يتوقف على الأديب نفسه. فكل أديب رؤية خاصة تحاول أن تستخلص من الدراما الإنسانية، معنى ... وهذا المعنى يدور حول محور الخير والشر... وأنا كأديب أعرض هذه الرؤية ـ بما فيها من استحسان لقيم واستهجان لقيم أخرى ـ على الناس وأحاول أن أجعلهم يشاركونه فيها..
    إذن للأدب في نظري صفة مباشرة، وهي أنه فن جميل ... و صفة أخرى غير مباشرة هي محاولة خلق ضمير جديد في نفس القارئ ..." . ([8])
    ومن ثمًّ فإن نجيب محفوظ قد عرض مع أحلامه رؤيته بما فيها من استحسان لقيم مثل الحرية والعدالة والحقيقة، وطرح وجهة نظرة الخاصة في قضايا وطنه.
    وقد عُنى الأستاذ الكبير نجيب محفوظ بخلق ضمائر القراء وصياغة أفكارهم ومخاطبة وجدانهم الحي النابض من خلال روايته وقصصه ومقالاته وأحلامه، وأصداء السيرة الذاتية... وغيرها في إبداعاته الكثيرة.
    فهو يخاطب العقل الإنساني في أي مكان وزمان، حريصاً على طرح الأسئلة والقضايا.. وقد جاء ذلك بصورة مباشرة أياً في إجابته على الناقد فؤاد دواره حينما سأله عن صفات الضمير الجديد في نفس القارئ ، فقال نجيب محفوظ هذا سؤال خارج قليلاً عن دائرة الأدب ... مع ذلك فليس من السهل تحديد طبيعة هذا الضمير، ومع ذلك فليس من السهل الإجابة عليه لأن سبعين أو ثمانين في المائة من هذه المضامين ليست واضحة شعورياً.. فأنا لا أجلس أؤلف رواية تدعو للحرية أو أخرى تنادي بالعدالة الاجتماعية، لأني لست فيلسوفاً كسارتر مثلاُ الذي كتب رواياته ومسرحياته كتطبيقات على الأفكار التي تدعو إليها فلسفته كل ما أستطيع أن أقوله إن هناك قيماً معينة ترسبت في وداني وأجبتها طول حياتي ولذلك فلابد أن تدافع أعمالي عنها أهم هذه القيم هي العدالة الاجتماعية تحت أي اسم، فهي قيمة لا يمكن أن تنفصل عن ضميري... وهناك قيم أخرى تلح على دائماً كالحرية والحقيقة والعلم.... فلا أتصور أن هناك رواية من رواياتي تخلو من الدعوة إليها أو على الأقل لا تدعو إلى عكسها"([9]) ولذلك فقد نلاحظ من هذه الإجابة العميقة الواضحة، القضايا التي كانت تؤرق نجيب محفوظ والأفكار التي تطارده من حين لآخر، فهو يقوم بعلمية ترسيخ لهذه النبيلة التي ضحى محفوظ من أجلها في سبيل خلق ضمائر القراء بشتى أنواعهم وفي مختلف أعمارهم.
    ويستخدم نجيب محفوظ بعض الحروف لكي يرمز من خلالها أشخاص معينين، فهو يكتفي بذكر الحرف الأول من كل اسم فيقول في حلم 162:
    قررتُ أن أسير من جنوب الوادي إلى شماله مشياً على الأقدام وقابلتني في أوائل الرحلة رفيقة الطفولة والصبا وقد سمنت سمنة مفرطة ونصحتني بأن أتزوج عوضاً عن هذه الرحلة العقيمة فشكرتها وواصلت السير حتى قابلت صديقي م متربعاً على سجادة الصلاة فدهشت وذكرته بأيام العربدة والإلحاد فقال لي الهداية من الله سبحانه ودعاني إلى الجلوس إلى جانبه فوعدته خيراً وواصلت السير وفي منتصف الطريق أقبلت على ب وحيتني فاعملة: إنني طاردتها بنظراتي حتى استجابت وإنتظرت أن تتقدم لأبي ولكنك لم تخطو خطوة واحدة بعد النظر فما سر ذلك؟ فقلتُ لها: إني مازلت أتسال مثلك وواصلت السير حتى بلغت الشمال منهك القوى متورم القدمين فرأيت الحبيبة الخالدة نصفها مغموس في مياه البحر الأبيض والنصف الأعلى يضئ الأمكنة من حوله وسألتني بصوتها الرخيم ماذا بدوري كيف يدوم حب بلى أدنى أمل طوال هذا العمر المرير؟ ([10])
    يبدأ الحلم بالرحلة من الجنوب إلى الشمال فقد يحدد نجيب محفوظ المكان الجنوب بعراقته وحضارته الفرعونية القديمة متوجها إلى الشمال، حيث العاصمة الأولى (الإسكندرية) والثانية القاهرة.
    وثم يحدد الشخصيات التي قابلها بل أقام حواراًً معهم فتقابله صديقة الصبا وتنصحه بأن يتزوج وهي مرحلة الشباب فيما أظن هي التي تنصحه، ثم يقابله صديقه م متربعاً على سجادة الصلاة. والصديق الذي راح الكاتب يذكره بأيام العربدة والإلحاد، وتأتي إجابة الصديق بأن الله سبحانه صاحب الهداية ثم يحدث في منتصف الطريق فتقبل عليه ب وتحيه، وتذكره بما كانت تتمنى وهي الحرية فيما أظن فلماذا لم يتقدم للزواج منها؟ وتأتي إجابة السارد فيقول لها: وأني مازلت مثلك ـ وعندما يصل إلى الحبيبة الخالدة المعشوقة التي يكون نصفها مغموس في مياه البحر الأبيض، فإذا جنيت من هذه الرحلة الشاقة، وهي رحلة الحياة/ حياة السارد، بطل الحلم فيجيب على السؤال بسؤال تكمن في باطنه الإجابات المتعددة وهو كيف يدوم حب بلى أدنى أمل طوال هذا العمر المرير؟ وتكمن المفارقة هنا حيث إن نجيب محفوظ يرصد مشاهدة عدة متناقضة فيما بينها مبتسرة، وهو يرسخ فكرة الحب الذي يعش في أحضان الأمل/ الهدف أو الذات المنتظرة لتحقيق هذا الأمل الذي تسعى من أجله، وتجوب البلاد سيراً وتقوم برحلة شاقة متبعة كهذه الرحلة فيما أظن أنه الأمل بتحقيق المحبة والحرية في هذه الحياة.
    ويستدعى نجيب محفوظ في حلم 155 شخصية بارزة كان لها أثر كبير في حياة محفوظ ألا هو الشيخ مصطفى عبد الرازق، فيقول نجيب محفوظ:
    بلغني أن نزلة برد خفيفة ألمت بأستاذي الجليل الشيخ مصطفى عبد الرزاق فقررت أن أعوده ولكني وجدته واقفاً على باب داري والدموع تنحدر على خديه فهالتي منظره الحليم إذا بكى وقلت له يا مولاي ما هي الأوعكة خفيفة لا تستحق الدموع، فقال لي: أنا لا أبكي على حالي فأدركت ما يعني من أن البكاء على حالنا نحن وانتهزت الفرصة وسألته عن العباد؟ فقال: عندكم لكثير من الصيدليات ملئ الأدوية إضافة إلى الوصفات الشعبية المجربة. ([11])
    من الملاحظ في الحلم السابق أن الذات الساردة لم تقل من الذي أبلغها أن الشيخ مصطفى عبد الرزاق مريض، وإنما ترك الفعل مبهماً واكتفى بقوله: بلغني أن نزله برد ألمت بأستاذي الشيخ مصطفى عبد الرازق، وعندما يستدعي نجيب محفوظ الشيخ مصطفى عبد الرازق، فهذا الاستدعاء لا يخلو من دلالات متعددة، أحد هذه الدلالات الذي جاء حديثه المباشرة للناقد فؤاد دوارة عن علاقته بأستاذه الشيخ مصطفى عبد الرازق يقول نجيب محفوظ عندما كنت اعد رسالة الماجستير مع المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق، كنت أمرُ بأزمة شديدة/ أو بفترة تنازع بين الفلسفة والأدب عذبتني كثيراً. ,أحسست أن علي أن أختار بينها، فقطعت العمل وأنا في منتصف الرسالة، وأحسست أن كل تقدم فيها يزيد من حدة التمزق المؤلم في نفسي ومن ثم فإن العلاقة القومية التي قدمها نجيب محفوظ بينه وبين الشيخ مصطفى عبد الرازق أنما هي علاقة صادقة فهو أستاذه، وشيخه، ولكن عندما يستدعي مثل هذا الشيخ، إنما له دلالا أخرى أيضاً لأن مصطفى عبد الرازق معروف بآرائه وقوته في الحق ودوره في التنوير الذي نشره، فهو أحد شيوخ الأزهر البارزين والعلماء النابهين، فهو أخو الشيخ على عبد الرزاق صاحب الكتاب المشهور والفريد، الإسلامي وأصول الحكم " ومما يثير الدهشة أن الكاتب قدم لنا صورة حزينة للشيخ وهو يبكي والدموع على خديه وقفطانه لكن الشيخ لا يبكي على حاله وإنما يبكى على حالنا نحن من التراجع والتخلف الذي لحق بنا وبتفكيرنا، وتقدم الأمم حولنا وتأخرنا هذا ما يحزن الشيخ، لكن المفارقة الحقيقية التي عُنى الكاتب بها وهي التي صدمنا بها في نهاية الحلم، وقد جاءت في إجابة الشيخ مصطفى فقال: عندكم الكثير من الصيدليات ملئ بالأدوية وإضافة إلى الوصفات الشعبية المجربة.
    يدعو نجيب محفوظ إلى العلاج من الأفكار المريضة والابتعاد عنها، فعلى الرغم من وجود العلاج في الصيدليات إلا أن الأمراض تنفش من حين لآخر، ومن وقت لوقت، هذا هو التناقض بعينة، وجود لأمراض المتعددة ووجود الصيدليات وعلى الرغم من ذلك انتشار إلا واحد ولم أخذ العلاج لنشفى.
    ومما لا شك فيه أن أحلام فترة النقاهة، وجاءت بصورة صادقته معبرة عن صاحبها أصدق تعبير. دكتور/أحمد الصغير
    ناقد وأكاديمي مصري



    --------------------------------------------------------------------------------

    ([1]) محمد الشربيني: أحلام الأديب .. أحلام الرسام، أخبار الأدب، ص 10 ع 70 ديسمبر 2006.
    ([2]) نجيب محفوظ: أحلام فترة التفاهة ـ نصف الدنيا، ص 77.
    ([3] ) السابق نفسه.
    ([4] ) عبد السميع عمر زين الدين: أصداء الأصداء ، الآفاق الفكرية في أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ، إصدارات خاصة، الهيئة العامة لقصور الثقافة القاهرة ، 2007، ص40.
    ([5] ) نجيب محفوظ: أحلام فترة النقاهة، ص 79.
    ([6] ) عبد السميع عمر زين الدين: أصداء الأصداء، مرجع سابق ص 40.
    ([7] ) نجيب محفوظ: أحلام فترة النقاهة ، مرجع سابق ص 83.
    ([8] ) فؤاد دوارة: عشرة أدباء يتحدثون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 2006، القاهرة ، ص 382 ـ 383.
    ([9] ) فؤاد دوارة: عشرة أدباء يتحدثون، مرجع سابق ص 383 ـ 384.
    ([10] ) نجيب محفوظ: أحلام قترة النقاهة ، ص 83
    ([11] ) فؤاد دوارة : عشرة أدباء يتحدثون، مرجع سابق ص 362..
    avatar
    د.إبراهيم جابر
    عضو فضي


    عدد المساهمات : 190
    تاريخ التسجيل : 10/08/2009

    المفارقة في أدب نجيب محفوظ Empty رد: المفارقة في أدب نجيب محفوظ

    مُساهمة من طرف د.إبراهيم جابر الأربعاء سبتمبر 30, 2009 3:16 pm

    مجهود رائع دكتور أحمد

    ونشكرك عليه

    والجميل هو توثيقك للمعلومات التي أتيت بها من مصادرها

    بارك الله فيك
    نور الإيمان
    نور الإيمان
    نائبة المدير
    نائبة المدير


    عدد المساهمات : 1298
    تاريخ التسجيل : 07/08/2009

    المفارقة في أدب نجيب محفوظ Empty رد: المفارقة في أدب نجيب محفوظ

    مُساهمة من طرف نور الإيمان الخميس أكتوبر 01, 2009 9:02 am

    مشكور دكتور

    جزاك الله خيرا

    في انتظار المزيد

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين مايو 06, 2024 9:43 am